
لم يكن يوم أمس يوماً عاديًّا بالنسبة لأمير (الاسم مستعار) ابن العشرين عاماً حيث كان مزدحماً بعدد من القضايا التي أنهكت تفكيره وأثقلت عقله الفطري. فلأمير عدة استفسارات وتساؤلات ..جعلته يحاول جاهداً الإجابة عنها وهو “متورّط” -بزعمه- ببعض الآفات التي يحاول عبثاً أن يُقلع عنها من دون جدوى ،لدرجة أنه استخدم كلمة “إدمان” مراراً خلال حديثه معنا.
امير سأل عدداً غير قليل من رجال الدين الذين نهره بعضهم ،والبعض الآخر أجابه: “تُب إلى الله واستغفر الله وعُد إلى الله”… لكن كيف؟ إلى من أشكو؟ ومن من أطلب المساعدة؟
يقول أمير : لأول مرّة أشعر أني نكرة، لا شيء، مجرّد خيال يمشي على رجلين. فلماذا أنا؟ وما هو ذنبي؟ كنت اتمنى أن أجد جواباً… حتى رجال الدين عزفوا عن إفهامي… أعتقد أنني أحتاج إلى أكثر من توبيخ… ربّما إلى إرشاد وتنبيه وتوجيه…
أطرق امير برأسه وقال :أحتاج إلى مساعدتك يا شيخ ،فأنا مدمن على مشاهدة الأفلام الإباحية وممارسة العادة السرية والوحدة والعزلة.. أعشق الظلمة وأخاف من المستقبل وبكى بكاءً عالياً، وجرت دموعه السخية على خديه كل دمعة ،تحمل عتباً وألماً. عتب على الأهل والمسؤولين والمجتمع ( لم يلم نفسه ابداً )وألم جراء الواقع الأليم الذي نعيشه.
رفعتُ رأسه برفق ونظرتُ إلى عينيه وسألته: هل تعرف لماذا انت هنا على هذا الكوكب؟ ما الغاية من وجودك؟ هل وضعت لنفسك هدفاً ترنو اليه وتعمل لأجله؟
هز امير برأسه مستغرباًمتمتماً :”لا أعرف شيئا … كل ما أعرفه بل متيقّن منه أني تعب من حياتي وأريد حلاً ينقذني”.
امير ابن عائلة فقيرة ،لطالما كان يحلم وهو صغير أن يصبح طبيباً ليعالج أمه من مرضها المزمن(الربو والسكري) ..لكن ظروفه المعيشية الصعبة حالت دون ذلك ،ومنعته من اكمال دراسته ليترك المدرسة في الصف السادس الأساسي بحثاً عن عمل يعين به أباه.
“كنت آدمياً”، يتابع امير : “الى أن تعرّفت على زمرة سيئة في مدرستي الرسمية ،لقد علموني عدة خصال سيئة لم أستطع التخلص منها إلى اليوم حتى باتت جزءاً من شخصيتي، ولم يعد بإمكاني التخلص منها”.
لم أستطع أن أخفي عن امير حجم الغضب الثائر في وجداني ،بسبب تقصيري والأهل والمسؤولين والجمعيات ورجال الدين والاعلاميين وأهل الاختصاص… الجميع مقصّر والجميع مهمل والجميع مشترك في هذه المظلومية عن قصد أو عن غير قصد.
فسألني: كيف أعود إلى الله ؟ فأجبته لسنا بعيدين عن الله ،ولا هو بعيد عنّا لنعود إليه.. فقط إفتح قلبك بذكره لتطمئن “أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”.
ابحث عن ذاتك، عن هدفك، عن مستقبلك وثق بربك واصنع نفسك بنفسك فأغلب العصاميين بدأوا من لا شيء، عاهد نفسك بأن تقلع عن أي عمل يلغي كيانك ويقوّض أمانك وكن أنت لا غيرك، اجتهد، إعمل، أسس لتبني أسرة تحقق فيها أحلامك
ولنتب الى الله جميعاً فكلنا خطاؤون وخير الخطائين التوّابين.
نهض وائل قائماً نافضاً عنه غبار اليأس وصاح أعدك بأن أكون عند حُسن ظنك، لن أعود إلى تلك التصرّفات القبيحة، وسأقوّي إيماني بخالقي، فقلت له اقرأ معي: “بسم الله الرحمن الرحيم * وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ”.
اما خليل (الاسم مستعار) فقد حولته تجربته مع الحب – كما قال- إلى “سكرجي” متسكع، يفترش أرصفة الطرقات، متكئاً على وسادة صنعها من أكياس النايلون والورق وعلى جنبه بطانية سوداء يتقي بها بعض برد الشتاء.
خليل التقى حبيبته يمنى (الاسم مستعار) في الثانوية، أحبها حدّ الجنون، وهي أوهمته – كما يزعم- بحبها له، استمرت العلاقة بينهما والتي لم تتخط حدود الرسائل والإشارات وبضع مكالمات سريّة من هاتف أختها الكبيرة ،إلى حد أنه لم يعد بإمكانه الصبر على هذه الحالة، فقرر أن يتقدّم لخطبتها، ليتفاجئ بعدة أسئلة طرحها الأب بنبرة متعجرفة على خليل، قبل أن يخبره بأن ابنته يمنى عازفة عن الزواج.
عندك سيارة يا ابني؟ عندك بيت؟ معك فلوس؟
اجابه خليل وقد امتلكه اليأس والحزن: “انا عم أمّن حالي”.
أربعة كلمات كانت كفيلة بأن تظهر غضب الأب الممزوج بقهقة صاخبة رافقتها: “الله معك.. أمّن عمهلك وأوعى ترجع لهون.. ما بدي شوف وجهك”.
كلمات كان وقعها كالخناجر على قلب خليل لكن الأشد وطأة كانت ابتسامة يمنى الصفراء ،وهي تمضغ العلكة مصدرة صوت طرقعة قوية وتقول: “قال حب قال”.
خرج خليل من بيت والد يمنى إلى لا بيت، ترك كل شيء خلفه ورحل، ترك بيت ذويه وعمله ودراسته والناس ولجأ إلى الأرصفة ينتظر رحمة هذا وشفقة ذاك.
حاولت أن اخفّف عنه بعضاً من مآسيه أن ألاطفه وأن أواسيه لكن دون جدوى.
فالمشكلة ليست عند خليل أو امير أو غيرهما، المشكلة في مجتمع متهالك هش قائم على التجهيل والإهمال والإفساد، مجتمع يحتاج إلى أكثر من ترميم، يحتاج إلى إعادة تأسيس بعيداً عن التحزب والتمذهب والتسييس. إلى مفكرين وموجهين ومرشدين وخبراء نفسيين وعلماء دين وإعلاميين ومسؤولين وقبل كل ذلك إلى دولة ليعملوا جميعاً في سبيل إحتواء الشباب وتحسين ظروفهم النفسية والعلمية والإجتماعية والاقتصادية. فالمجتمع يبنى ويزدهر بروح الشباب وفكر الشباب وعصب الشباب وبنية الشباب.