
عندما يكتب تاريخ القرن العشرين الذي غربت شمسه منذ ما يزيد عن عقدين فسوف يبرز هذا القرن باعتباره أخطر العصورالتي مرت وعاشها الجنس البشري . ففي هذا القرن عاش على سطح هذا الكوكب عدد من البشر يزيد على كل الذين عاشوا عليه منذ بدء الخليقة ، وفيه صنع هؤلاء البشر من العلوم والمعارف ما يزيد عن عشرمرات عما صنعه الذين سبقوهم منذ بدأ الإدراك والوعي والضمير والفكر الإنساني قبل قرابة عشرة آلاف سنة هم عمر الحضارة من اللحظة التي جرى فيها اكتشاف الزراعة وبدأ استقرار المجتمعات .
وربما كان أكثر ما رمز الى ظهور ” دنيا جديدة ” هو الإعلان الذي أصدرته الجمعية الجغرافية الملكية في لندن أيار 1901 وجاء فيه ” أن عملية الكشوف الجغرافية قد اكتملت وأنه لم تعد في الكرة الأرضية كلها بقعة غير معروفة وغير مطروقة وغير مرسومة ” ، وقد تناهى هذا الإعلان الى أسماع الجميع في المشارق والمغارب بينما هم منهمكون في مناقشات واسعة حول ملاحظات ” داروين ” عن أصل الأنواع ونظرات فرويد في أعماق النفس وتحليلات ماركس لقضايا الإنتاج .
وعندما بدأت الحقبة الأولى أي العشر سنوات الأولى من القرن العشرين ، تسارعت الكشوف العلمية يلاحق بعضها بعضاً ، كان ” رزفورد ” قد تمكن من تحديد الأشعة التي استطاع فيما بعد أن يكسر بها الذرة ، وكان ” بيير وماري كوري ” قد أمسكا بمادة ” الراديوم ” ، وكان ” آينشتاين ” يعلن اكتشافه لنظرية النسبية ، وكان ” ماركوني ” يبعث بأول رسالة باللاسلكي عبر المحيط الأطلسي ، وكان ” لاندشتينر ” قد توصل الى تحليل فصائل الدم ، وكان ” إيستمان ” قد بدأ صنع أفلام ” كوداك ” ، وكان إديسون – بعد الكهرباء – يعرض على الدنيا شيئاً يختزن الكهرباء وهو البطارية ، وكان الأخوان ” رايت ” يقومان بأول تجربة طيران عبر بحر الشمال من بريطانيا الى فرنسا ، وكان كورين في باريس يجرب أول طائرة عمودية ” (هليوكوبتر) ، وكانت السينما الناطقة قد ظهرت لأول مرة في معرض باريس الدولي .
وفي هذه الحقبة توجهت وسائل القوة الى استكمال اسستعدادها ، فقد كانت بريطانيا تصنع أول غواصة في عمق البحار ، وكان المدفع الرشاش يحدث إنقلاباً في أساليب القتال تبدت نتائجه المروعة في المعركة بين الدراويش أثناء معركة إعادة فتح السودان ، وتحول الأسطول البريطاني من استعمال البخار الى استعمال البترول وقوداً لبوارجه ومدمراته ، واختلفت بذلك وسائل السيطرة على المحيطات ، وكانت فكرة الدبابة قد تحولت الى رسوم على الورق ، ثم أن الطيران بدا إمكانية مهيأة لقلب نظريات القتال رأساً على عقب .
وفي هذه الحقبة راحت أساليب الحياة العادية للناس تتغير كل يوم ، فقدم ” جيليت ” موسى الحلاقة السهل المريح ، وظهر دواء الإسبرين ” وجرى في أميريكا تسجيل أول اسطوانة ناطقة ، وظهرت السيارة في لندن من صنع الصديقين “رولز ورويس ” وفي برلين من صنع “ديملر وبنز ” واشتهرت بإسم إبنة ديملر ” مرسيدس ” وفي ديترويت طور هنري فورد ” أسلوب إنتاج سيارته بحيث يبني أكثر من خمسماية ألف سيارة في السنة مستعملاً نظرية خطوط التجمع التي أثبتت كفاءتها العالية في الصناعة ، وبهذا كانت السيارة على وشك أن تبدأ عصرها الذهبي الذي غير إيقاع الحياة تغييراً شاملاً .
وفي هذه الحقبة عززت أدوات الانتاج قدراتها ذلك لأن دخول البترول كوقود للمحركات أحدث ثورة لم تقتصر على السيارة وحدها وإنما امتدت الى مجالات الزراعة والصناعة ومن ثم الى مجال المال ، وكانت الولايات المتحدة هي القوة المتأهبة أكثر من غيرها لهذا التحول العظيم ، كانت أراضيها الشاسعة ومواردها المائية السخية قد جعلتها أكبر حقل زراعي عرفه التاريخ ، وكان فيها من المعادن – وأولها البترول – ما يفيض عن حاجتها ، وكانت قد أتمت بناء شبكات السكك الحديدية التي ربطت ولاياتها النائية وجعلت منها بالفعل – لا بمجرد الدستور – بلداً واحداً .
وقد بانت للدنيا كلها مجتمعاً شاباً وفواراً ومتجدداً خالياً من عقد المواريث التاريخية التي تمسك بخيال مجتمعات أخرى وتقيد حيويتها واندفاعها ، وتبدت نتيجة لذلك مستعدة لاستقبال كل ما تصنعه أوروبا ومستعدة لتمويله ، وفي نفس الوقت اتجهت أنظارها الى أميريكا الجنوبية وقد حصل ” روكفلر ” على معظم موارد هذه القارة من البترول وأهمها آبار المكسيك وفنزويلا ، وجاء يوم أعلن فيه أن ثروة روكفلر تقدر بألف مليون دولار ، وكانت أول مرة يستعمل فيها العالم رقم البليون ، وكان ما يخطف الأبصار في ثرة أصحاب البلايين الكثر أن الدولار وقتها وبإعلان الرئيس “مكينلي ” سنة 1901 أصبح مربوطاً بالذهب وتوأماً له بالميزان .
وهكذا لاح القرن العشرين منذ بداياته قرناً للعلم والحرية وللوفرة والغنى ، ولنوع جديد من الحياة السهلة في تناولها والسريعة في إيقاعها كموسيقى الجاز التي ترددت أنغامها وأصداؤها في لحظة ميلاده متدفقة من العالم الجديد – أميركا ، وكانت الدلائل كلها تشير الى أن هذا القرن العشرين سوف يكون قرناً أميركياً بمقدار ما كان القرن الثامن عشر قرناً فرنسياً وبمقدار ما كان القرن التاسع عشر ( بعصر فيكتوريا وأبهته ) قرناً بريطانياً .