
فى مماته كما فى حياته ، ظل جمال عبدالناصر مالئ الدنيا وشاغل الخلق ، هكذا كان ويكون مع مرور 55 سنة على رحيله فى عنفوان الرجولة ، وربما إلى مئة سنة مقبلة ، سيظل الجدال والصراع مستعرا مشتعلا بين الأعداء والكارهين وبين أنصار تجديد مشروعه الحضارى التقدمى ، وقد بدأت الدراما الفريدة من جنازته ، وقد كانت ـ بمعيار السكان النسبى ـ هى الأضخم فى مطلق التاريخ الإنسانى ، وكانت ألسنة الخلق أقلام الحق تلهج بالنشيج الباكى “يا ناصر ياعود الفل / من بعدك هنشوف الذل” ، وقد كان بعد سنوات قليلة من رحيله المباغت ، بعد اقتحام جيشه لأعقد مانع مائى وتحطيم خط بارليف والعبور إلى سيناء ، ثم كان ما كان من خذلان السياسة لنصر السلاح ، والانقلاب على اختيارات عبد الناصر ، ودوس الذين “هبروا على دماء الذين عبروا” ، والتفكيك المتصل لركائز الإنتاج وقلاعه الكبرى إلى اليوم ، وكان عبد الناصر وقت أن فاضت نفسه إلى بارئها الأعظم ، وإلى موعد الحرب التى تأجلت إلى 6 أكتوبر 1973 ، قد ترك مصر وهى تمضى رأسا برأس مع “كوريا الجنوبية” فى سباق التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجى ، وكانت حققت أعلى معدلات النمو الحقيقية ( 6,7%.. وهو رقم لم تكشفه الامم المتحدة إلا عام 1976 اي بعد رحيل جمال في 28/9/1970 )فى ما كان يعرف وقتها باسم “العالم الثالث” بما فيه الصين ، وبإجمالى ديون مدنية وعسكرية لا تتجاوز 1700 مليون جنيه ، صارت صفرا بعد تنازل “الاتحاد السوفياتي” عن تحصيلها ، وكان الجنيه المصرى وقت رحيل عبد الناصر يعادل نحو الدولارين ونصف الدولار ، وكان تشغيل الخريجين إلزاميا للدولة ، وبراتب ابتدائى يعادل شرائيا نحو 30 ألف جنيه مصرى اليوم .
وقد لا نريد الاستطراد فى مقارنات كاشفة ، أضف إلى ذلك ما تعيشه الأمة كلها من هوان الهوان ، ومن تجاوز الحضيض إلى قاع القاع ، ومن تخطى قيعان العجز إلى “التحلل الرمى” المتعفن ، إلا من عصم ربك من المقاومين هنا أو هناك ، وبالذات على جبهة مقارعة حرب الإبادة الجماعية الوحشية التى تشنها أمريكا و”إسرائيل” معا ، وفى سياق الدم الزكى الفياض الذى يتحدى السيف ويكسره فى جولات ، ووسط قعود الأمة من أدناها إلى أقصاها ، ودعوات الناعقين للمقاومين أن يستسلموا، كما فعلت وتفعل نظم الخزى والعار ، وتحالف الكثير منها مع كيان الاحتلال ، وتقديمها إتاوات بتريليونات الدولارات للعدو الأمريكى ـ “الإسرائيلى” ، حاول بعض المعتوهين أن يقتبسوا عبد الناصر زورا ، وأن يدعوا أنهم لا يفعلون سوى ما أوصى به زعيم الأمة التاريخى ، وعلى طريقة “ولا تقربوا الصلاة” ، وعلى نحو مجتزأ مزور تماما ، فإجتزاء الحقيقة كخيانتها ، واستعانوا بمقطع من حديث دار بين عبد الناصر والعقيد الليبى معمر القذافى أوائل أغسطس 1970 ، ودونما أدنى مراعاة للسياق ولا حتى لنص الكلمات الصريحة القاطعة فى معانيها ، كان عبد الناصر يعبر عن عظيم الاستياء والغضب من ثوريين مزيفين فى أنظمة وجماعات وقتها ، شنوا حملة مزايدات وشعارات رخيصة فارغة ضد قبول عبد الناصر لما عرف باسم “مبادرة روجرز” الأمريكية ، وفضح عبد الناصر هوانهم وتقصيرهم وتناقضاتهم ومزايداتهم الكلامية باسم “قومية المعركة” ، وأبان عجزهم فى التحرك بالسلاح على جبهة الشرق ضد كيان الاحتلال ، الذى كان قد احتل القدس والضفة الغربية والجولان فى عدوان 1967 ، وأضاف إليها غزة وسيناء على جبهة مصر ، وبمجموع أراضى محتلة بلغت 81 ألف كيلومتر مربع ، شكلت سيناء وحدها ثلاثة أرباعها ، وبينما كان عبد الناصر يقود ويقاتل ويحشد على جبهة الحرب مليون جندى وضابط ، وبموازنة سنوية بلغت وقتها 550 مليون جنيه غير مشتريات السلاح ، كان بين المزايدين لفظيا على عبد الناصر نظام حكم حسن البكر”البعثى” فى العراق وقتها ، ولم يدفع فلسا فى دعم جبهة الحرب لا فى مصر ولا فى سورية، على الرغم من أن العراق كان دولة نفطية غنية ، وكانت لدى عبد الناصر -ضابط الايقاع العام فى المنطقة وقتها- شكوكا ، كانت لديه تقارير ومعلومات أكيدة عن عمل قيادات فى أحزاب “قومية ثورية !” لصالح أجهزة المخابرات الغربية والبريطانية بالذات ، كانت معادلة التكامل وتقسيم الأدوار بين دول دعم ودول مواجهة ، قد صاغها عبد الناصر فى قمة الخرطوم المعروفة بقمة “اللاءات الثلاث” ، لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل ، وكان عبد الناصر يواصل دوره المرموق كقائد تفكير وقائد ممارسة معا ، يعرف هدفه ومواضع الأقدام ، ويصدقه الناس من دون غيره ، سواء كانوا من الرجعيين أو التقدميين المزيفين ، ولم يكن بالطبع ضد السلام الذى يعيد الحقوق كاملة ، ودونما اعتراف ولا تطبيع مع كيان الاحتلال ، وفى المحضر السرى لاجتماع مجلس الوزراء برئاسته بتاريخ 31 ديسمبر 1968 ، عاد عبد الناصر لتأكيد أنه لا فرصة لحل سلمى عادل ، ثم اختصر الطريق مباشرة لهدف أمريكا و”إسرائيل” مما كان يعرض من حلول سلمية ، وقال بالنص المعروض صوتيا على الموقع الرسمى لجمال عبد الناصر بمكتبة الإسكندرية ، وقد اطلعت عليه كما على آلاف الساعات المسجلة بالنص والصوت وقت إعدادى لكتابى (عبد الناصر الأخير) ، قال عبد الناصر “الموضوع (المعروض) يعنى إيجاد سلام بالقوة (…) اليهود عايزين معاهدة صلح معاهدة سلام (…) وهذا الموضوع الحقيقة إذا فكرنا فيه .. لا يحق لنا بأى حال من الأحوال إن احنا نفضل (نظل) فى محلاتنا (كراسى الحكم) ” أى أن عبد الناصر ربط شرطيا بين وجوده فى السلطة ،ورفض أى معاهدة صلح أو سلام مع “إسرائيل” ، واعتبرها خيانة “يعملوها ناس غيرنا” كما أضاف بنص المحضر السرى المذكور .
وفى المقطع المجتزأ المروج ، الذى حذف أغلبه عمدا ، يعود عبد الناصر لتأكيد موقفه القطعى غير القابل للتأويل الفاسد ، ويقول نصا “أنا ممكن اتفق مع جولدا مائير سرا . بس هبقى راجل منافق” ، كان عبد الناصر يشير مجددا إلى رفضه أى تفاوض مباشر مع “إسرائيل” ، وإلى قناعته العلنية والسرية بأن “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها” ، وهو ما دفعه لإغلاق الباب فى وجه محاولات رئيس المؤتمر اليهودى العالمى وقتها “ناحوم جولدمان” ، الذى كان يسعى لمد جسور بين عبد الناصر و”جولدا مائير” رئيسة وزراء “إسرائيل” وقتها ، وفى المحضر السرى لاجتماع قيادة الاتحاد الإشتراكى برئاسته بتاريخ 28 يوليو 1970 ، قال عبد الناصر نصا وصوتا “والله أنا بعت (أرسلت) حمروش (الكاتب واحد الضباط الاحرار من اليساريين أحمد حمروش) قابل جولدمان (…) الخطة إن احنا نجيب منه معلومات (…) ودى عملية مخابرات بتتعمل فى كل الدنيا” ، تماما كقصص التواصل مع الصحافي الفرنسى اليهودى الشهير “إريك رولو” وغيره ، وإذا عدنا إلى المحضر السرى نصا وصوتا لحديث عبد الناصر مع القذافى ، يرد السبب الذى من أجله تظاهر عبد الناصر بقبول “مبادرة روجرز” ، وقد كان سببا حربيا بامتياز ، يتعلق بالاستفادة من مهلة الثلاثة شهور وقف إطلاق نار فى المبادرة الأمريكية ، فقد كانت حرب الاستنزاف متصلة قبلها لنحو ألف يوم ، وكان الجيش الذى بناه عبد الناصر من تحت الصفر بعد الهزيمة ، قد أكمل تجهيزاته لحرب تحرير كانت مقررة فى النصف الأول من العام 1971 ، وكان واحدا من أعظم مشاغل عبد الناصر ، أن يوفر للبلد شبكة دفاع جوى متطورة ، تقى المصريين من غارات طيران العدو ، وتوفر غطاء لجيش العبور حين تحين اللحظة ، وهو الجهد الذى بلغ ذروته بإقامة ماعرف فيما بعد بصفة “حائط الصواريخ العظيم” ، وهو عبارة عن قوات منفصلة للدفاع الجوى ، تضم المدفعية المضادة للطائرات مع وحدات الصواريخ “البيتشورا” و”سام ـ 2″ و”سام ـ 3″ و”سام ـ 6″ ، وأجهزة الرادار والإنذار ومراكز القيادة المشتركة ، وكان عبد الناصر يريد فسحة من وقت هادئ لدفع حائط الصواريخ إلى الحافة الأمامية لجبهة الحرب ، ومن دون تعريض عمال الإنشاءات للقتل بغارات العدو ، ووجد الفرصة فى وقف إطلاق النار الموقوت الذى نصت عليه “مبادرة روجرز” ، وبعد حديثه مع القذافى بأكثر من شهر ، عاد عبد الناصر لتأكيد نجاح خطة الخداع الحربى ، التى اكتشفتها واشنطن ، ولكن بعد فوات الأوان ، واتهمت عبد الناصر بخرق وقف إطلاق النار ، وفى المحضر السرى لاجتماع مجلس الوزراء برئاسته بتاريخ 7 سبتمبر 1970 ، قال عبد الناصر كما المسجل نصا وصوتا “الحقيقة قوتنا فى الصواريخ زادت جدا عن الأول .. يعنى أكثر وتضاعفت . فى الشهر ده وصلت لنا الصواريخ سام ـ 3 اللى عليها مصريين (…) يمكن احنا بنعوز برضه ال 3 أشهر . لأن الحاجات جاية جديد . ولسه عايزين وقت (…) احنا الصواريخ نقدر نحطها فى ليلة واحدة (…) وبهذا نقدر نغطى 20 ـ 30 كيلومتر من الضفة الشرقية (سيناء) . وبهذا نستطيع أن نعبر على طول ” .
[email protected]