
التصوف بين تقديس آل البيت ورفض السلفية..
يعد التصوف بتراثه الروحي العريق الممتد لأكثر من ألف عام أحد أبرز التيارات الباطنية في الإسلام ،حيث يسعى أتباعه إلى تحقيق القرب من الله عبر التجربة الروحية المباشرة والزهد
وعلى الرغم من انتشاره الواسع ،ظل التصوف ساحة للجدل والخلاف داخل المذاهب الإسلامية ،لا سيما في علاقته المعقدة مع كل من التشيع والنهج السلفي.
وتتركز نقاط الخلاف حول ممارساته الروحية ،وتفسيراته للنصوص وبشكل خاص موقفه من آل البيت
تقديس آل البيت نقطة التقاء وخلاف
أحد المحاور الأساسية التي تضع التصوف في دائرة الضوء هو ارتباطه الروحي العميق بآل البيت ،
تعتمد العديد من الطرق الصوفية سلاسل إسنادها الروحي وصولاً إلى الإمام علي بن أبي طالب، مما يمنح هذا الارتباط بعدًا رمزيًا قويًا
تتجلى هذه المحبة في الممارسات العملية كالاحتفالات بالموالد النبوية وموالد آل البيت وقراءة قصائد المدح في الزوايا والتكايا.
هذا التقدير لآل البيت يمثل نقطة تقارب ظاهرية مع المذهب الشيعي الذي يضع آل البيت في صلب عقيدته .
لكن الفارق الجوهري يكمن في طبيعة هذا التقدير ،فالصوفية في غالبيتها السنية ترى في آل البيت نماذج للقدوة الروحية والزهد والتقوى ،بينما يؤمن الشيعة بعصمة الأئمة من آل البيت وبأنهم ورثة العلم النبوي وينصبون إلهيًا -وهي عقيدة الإمامة التي لا يقرها الصوفية بمعناها الشيعي-
لماذا يرفض السلفيون التصوف؟
هنا يبرز الموقف السلفي الرافض للتصوف بشدة. يرى السلفيون أن الممارسات الصوفية مثل الاحتفال بالموالد والذكر الجماعي والتوسل بالأولياء وزيارة الأضرحة، هي “بدع” محدثة لا أصل لها في نهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم .وصحابته الأوائل (السلف الصالح) يعتبر الفكر السلفي أن هذه الممارسات تبعد المسلم عن التوحيد الخالص وتفتح بابًا للشرك، لا سيما في تقديس الأولياء والشيوخ الذي يرونه نوعًا من الوساطة المرفوضة بين العبد وربه.
علاوة على ذلك يصطدم التصوف بالمنهجية السلفية القائمة على التمسك بظاهر النصوص من القرآن والسنة .فالصوفية غالبًا ما تميل إلى التفسير الباطني والرمزي للنصوص، معتبرة أن لكل آية ظاهرًا وباطنًا، وهو ما يعتبره السلفيون انحرافًا خطيرًا عن الفهم الصحيح للدين ،وتأويلاً غير منضبط قد يقود إلى الضلال.
هل العداء للصوفية امتداد للعداء للشيعة؟
يثير التشابه في أسباب رفض السلفية لكل من التصوف والشيعة تساؤلاً حول ما إذا كان العداء للصوفية مجرد امتداد للخلاف التاريخي مع الشيعة. فالسلفية ترفض كلا التيارين لأسباب متقاربة:
الابتعاد عن النص كلاهما، بدرجات متفاوتة، يعتمد على تفسيرات غير حرفية أو يضيف أبعادًا باطنية للنصوص.
تقديس الأشخاص تقديس الشيوخ والأولياء في التصوف، وتقديس الأئمة في التشيع، يُنظر إليه من المنظور السلفي كنوع من الغلو أو حتى الشرك.
الممارسات المحدثة (البدع) الطقوس الصوفية (الذكر الجماعي، الموالد، ا لأضرحة) والطقوس الشيعية (بعض ممارسات عاشوراء، زيارات خاصة) تُعتبر بدعًا مرفوضة.
لكن النظرة التاريخية تُظهر أن الصراع السلفي مع التصوف له جذوره المستقلة والعميقة. فحملات الحركة الوهابية في القرن الثامن عشر ضد الأضرحة والمظاهر الصوفية سبقت بكثير الصراعات الحديثة مع التشيع السياسي، مما يشير إلى أن الخلاف عقدي وجذري مع التصوف بحد ذاته.
هل التصوف جسر أم حاجز؟
رغم هذا التوتر، ادى التصوف أدوارًا معقدة ومتباينة في علاقته بالمذاهب الأخرى. فقد سعى بعض رموزه، كالإمام الغزالي، للجمع بين الفقه السني والروحانية الصوفية، محاولاً بناء جسور التفاهم. وفي مناطق مثل المغرب وغرب إفريقيا (كالسنغال)، تُعتبر الزوايا والطرق الصوفية جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والديني، بل وتُعد أحيانًا حصنًا ضد انتشار التأثيرات الشيعية أو السلفية المتشددة.
ومع ذلك، فإن مرونة التصوف وقدرته على التكيف مع الثقافات المحلية تجعله متنوعًا ،فبعض الطرق كالبكتاشية (المنتشرة في البلقان) تُظهر تقاربًا كبيرًا مع التشيع، بينما ترفض طرق أخرى كالتيجانية في غرب إفريقيا، أي تواصل عقائدي مع الشيعة. كما أن السياقات السياسية الحديثة تزيد المشهد تعقيدًا، حيث تُتهم جهات مثل إيران بمحاولة استغلال بعض الرموز والممارسات الصوفية المشتركة لنشر التشيع في دول مثل باكستان وأفغانستان، مما يثير حفيظة التيارات الصوفية التقليدية والسلفيين على حد سواء.
في المحصلة، يمثل التصوف تيارًا فريدًا داخل الإسلام، يثير الإعجاب والجدل في آن واحد. وبينما يجد نقاط التقاء رمزية مع الشيعة في محبة آل البيت، فإنه يختلف معهم في أسس العقيدة كالإمامه ،أما الخلاف مع السلفية فهو عميق وجذري يتعلق بمنهجية فهم الدين وممارسته،
وعلى الرغم من أن أسباب الرفض السلفي للتصوف قد تتشابه مع أسباب رفضهم للشيعة، إلا أن لكل صراع سياقاته التاريخية والعقدية المستقلة
وإن كانت التوترات السياسية المعاصرة قد تساهم في خلط الأوراق أحيانًا .
يبقى التصوف بمرونته الروحية وتنوعه في تفاعل دائم ومستمر مع التيارات الإسلامية الأخرى.