الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{ولو رَدُّوه إلى الرسول وإلى أُولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتَّبعتم الشيطان إلا قليلًا} سورة النساء.
لا يجوز لأحدٍ أن يدخل في تأويل نصوص القرآن والسنة برأيه البحت المجرَّد عن دليل الشرع ومن أشكل عليه فهم بعض النصوص فعليه بالرجوع إلى العلماء المعتبرين لسؤالهم فقد رزق الله تعالى بعض الناس علمًا واسعًا فجعل عندهم مقدرةً على استنباط أي استخراج الأحكام من الكتاب والسنة كالخلفاء الراشدين وكالأئمة الأربعة والأوزاعي وغيرهم من أئمة الصحابة والتابعين وأهل البيت المطهَّرين وهؤلاء إنما وصلوا إلى تلك المرتبة لاجتماع أدوات أهلية الاستنباط فيهم فحازوا مرتبةً علميةً عاليةً قلَّ أن يصل إليها أحدٌ وحتى هؤلاء فإنهم ما كانوا يُفتون بمجرد الرأي بل بالاستناد إلى ما صح من دليل النقل ويشهد بصحته دليل العقل ويقال لهؤلاء “المجتهدون” وأكثر أدعياء المشيخة اليوم بعيدون من تلك الطبقة بُعد المشرق من المغرب وبالتالي: فليس لأحدهم أن يدخل في تأويل النصوص برأيه ولا في استنباط الأحكام بالتَّشهِّي فقد قال الله تعالى:{يُضلُّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا} سورة البقرة. فقوله: يُضل به أي بالتأويل الفاسد فكم من أناسٍ هلكوا وأهلكوا بحمل بعض نصوص القرآن والحديث على خلاف معناها الحقيقي وكم من عوامٍّ اغتروا بما سمعوا فلم يقبلوا الهدى بعد ذلك لأنهم يرون إجلال الشيخ عن الخطإ والواقع أنه لا يُعرف الحق بالرجال ولكنَّ الرجال يُعرفون بالحق فعن ابن عبَّاسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”ليس أحدٌ إلا يُؤخذ من قوله ويُدع غير النبي” صلى الله عليه وسلم. وروى مسلم عن ابن عبَّاسٍ في حديثٍ طويلٍ أن أبا بكرٍ الصدَّيق عبَّر رؤيا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:”أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا” وأخرج عبد الرزاق في مصنفه أن سيدنا عمر قال:”إن امرأةً خاصمت عمر فخَصَمته(أي أقامت عليه الحُجَّة)وفي لفظٍ عند ابن حجرٍ في الفتح أن عمر قال:”امرأةٌ أصابت ورجلٌ أخطأ” وإنما قدَّمت بهذه المقدمة لأنبِّه على شرح حديث تكلّم فيه بعض المتمشيخين على خلاف الحق ولكن يُناسب قبل ذكر الحديث وبيان معناه التأكيد على مسألتين مهمَّتين فأقول:
المسألة الأولى: يجب الإيمان أن الله على كل شىءٍ قديرٌ فلا يُعجزه شىءٌ ولا مانع لما أراد قال تعالى:{وهو على كل شىءٍ قدير} سورة الملك. والقدرة لله صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ يؤثر الله بها في الممكنات العقلية أي في كل ما يجوز في العقل وجوده وعدمه بها يوجد ويُعدم ومن نفى أو شك في قدرة الله على كل شىءٍ لا يكون مؤمنًا لأنه لم يعرف الله تعالى والحكم العقلي ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ واجبٌ عقليٌ ومستحيلٌ عقليٌ وممكنٌ أي جائزٌ عقليٌ وقد تكلَّمنا عن شرح ذلك في مقالٍ سابقٍ بعنوان “أقسام الحكم العقلي” فلينظره مريد مزيد الفائدة فإنه مهمٌ.
المسألة الثانية: يجب الإيمان جزمًا أن الله تعالى لا يغفر للكافر إن مات ولم يرجع عن كفره بالشهادتين فإن الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله لمن مات عليه هو الكفر قال تعالى:{والذين كفروا وكذَّبوا بأياتنآ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} سورة البقرة. وقال تعالى أيضًا:{إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون لمن يشآء ومن يُشرك بالله فقد ضلَّ ضلالًا بعيدًا} سورة النساء. والأدلة على ذلك كثيرة.
وإذا عُلم هذا نورد الحديث ونُبيِّن معناه فنقول: روى البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظٍ مختلفةٍ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”كان رجلٌ يُسرف(يُذنب كثيرًا) على نفسه فلمَّا حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فاحرقوني ثم اطحنوني ثم ذرُّوني في الريح فوالله لئن قَدَر عليَّ ربي ليعذِبَنّي عذابًا ما عذَّبه أحدًا فلمَّا مات فُعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائمٌ فقال: ما حملك على ما صنعت قال: يا رب خشيتك فغفر له” وفي روايةٍ أمر أن يذَّر في الريح في البحر وفي لفظٍ ثم اذرُوا نصفه في البر ونصفه في البحر”
قلت: قد أخطأ بعضهم في تأويل هذا الحديث بما لا يجوز بل ويضل بعيدًا من اعتقده فزعم بعضهم كابن قتيبة أنه قد يغلط بعضهم في معرفة ما يجب لله من الصفات ويُعذر بذلك ولا يُحكم عليه بتكذيب الدين وزعم بعضهم كالعُريفي أن هذا الرجل كفر ومع ذلك غفر الله له كفره وكلا القولين غلطٌ فاحشٌ وضلالٌ مبينٌ ومعارضةٌ صريحةٌ للدين فليُحذر وإليك ما جاء في معنى الحديث:
قوله: لئن قَدَرَ عليَّ معناه قَدَّرَ وقَدَرَ بالتخفيف وقَدَّرَ بالتشديد بمعنًى واحد والمراد قضى عليَّ بالعذاب وقيل قَدَرَ أي ضَيَّق وهو سائغٌ في اللغة قال تعالى إخبارًا عن نبيه يونس عليه السلام:{وذا النون إذ ذهب مُغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه} سورة الأنبياء. فقوله: نقدر نُضيِّق إذ يستحيل على الأنبياء الشك في قدرة الله لعصمتهم وضلَّ من اعتقد أن معناها أن يونس عليه السلام شك في قدرة الله تعالى ومن جَعل الأنبياء جاهلين بربهم وصفاته فمن يعلم ذلك بعدهم بزعمه؟ وقال تعالى:{يبسط الرزق لمن يشآء ويَقدِر} أي يُضيِّق. سورة الشورى. وقال تعالى أيضًا:{فَقَدَرَ وقرأ بعضهم فَقَدَّرَ عليه رزقه} سورة الفجر. أي ضيَّق عليه الرزق. وكل هذا شاهدٌ لتأويل قَدَر في الحديث بضيَّق. وقال بعضهم: إنما قال هذا الرجل ما قال في حالةٍ غلب عليه فيها الخوف والذهول بسبب ما نزل به من شدة الموت فلم يعِ ولم يدر ما يقول وقد ذكر هذه المعاني غير واحدٍ من أهل العلم منهم ابن حجرٍ في “الفتح” والسيوطي في “شرح صحيح مسلم” والمازري في “المعلم بفوائد مسلم” والقاضي عياض في “إكمال المعلم” والنووي في “شرح صحيح مسلم” وقال في أثناء ذلك:”إنما فعل (أي الرجل المذكور في الحديث) هذا من خشية الله تعالى والكافر لا يخشى الله تعالى ولا يُغفر له” فافهم الصواب وإيَّاك وسوء الفهم والحمد لله أولًا وآخرًا.
