
على مدى نحو الثلاثة شهور إلى اليوم ، بدأت رهانات الرئيس الأمريكى تهوى ، وبالذات فى علاقته مع روسيا ورئيسها “فلاديمير بوتين” ، وفوارق الخبرة والحنكة والذكاء بين الرجلين لا تحتاج إلى شروح ، إضافة لوقوع “ترامب” فى غواية “بوتين” ، ولأسباب ظل بعضها غامضا إلى الآن ، فقد راهن “ترامب” على إنهاء حرب أوكرانيا فى 24 ساعة (!) ، وبادر منذ استلامه الرئاسة الثانية إلى إجراء اتصالات هاتفية مطولة مع “بوتين” ، وتصور أن فرط إعجابه الظاهر بالرئيس الروسى سيعينه ويشفع له ، ويسهل ويفتح الطريق لإنجاز الرهان ، حتى لو استطالت المهلة من يوم واحد إلى شهور ، لكن مهارات “بوتين” لاعب الشطرنج السياسى ، ذهبت بمقامرات “ترامب” إلى متاهة ، دفعت الرئيس الأمريكى إلى كلمات امتعاض من “بوتين” ومراوغاته ، لم يتخط فيها “ترامب” حدود العتب المتحفظ على صديقه ومثله القيادى الأعلى ، ومن دون أن يتوقف عن تقديم هدايا لروسيا ورئيسها ، لن يكون آخرها قرار “ترامب” بإعفاء روسيا من “هوجة” الزيادات الجزافية فى الرسوم الجمركية ، التى طالت نحو ستين دولة حول العالم ، وإن حاول معاونو “ترامب” البحث عن تفسير ، وجدوه كما قالوا فى ضآلة صادرات روسيا إلى السوق الأمريكية بسبب آلاف العقوبات الاقتصادية الموقعة علي موسكو منذ بدء حرب أوكرانيا فى 24 فبراير 2022، وقد نزلت قيمة الصادرات الروسية لأمريكا إلى ثلاثة مليارات دولار سنويا ، ورغم ما يبدو من وجاهة ظاهرة فى التفسير والتبرير ، إلا أنه لا يبدو مقنعا تماما، فكثير من الدول التى شملتها عقوبات الرسوم الجمركية “الترامبية” ، تقل قيمة صادراتها إلى السوق الأمريكية عن صادرات روسيا الحالية .
وبالطبع ، يدرك “بوتين” ، أن انقلابات “ترامب” على السياسة الأمريكية المعادية تقليديا لروسيا فرصة مفيدة لموسكو ، سعى “بوتين” لاستثمارها فى نسيج تفاوض معقد ، يستخدم جموح “ترامب” كحصان طروادة فى اختراق وتفكيك التحالف الغربى المعادى ، وبالذات فى حرب أوكرانيا ذات الطبيعة العالمية ، التى اجتمعت فيها أكثر من خمسين دولة على محاربة روسيا ، ونزلت إلى الميدان الأوكرانى بكل ما تملك من أسلحة ونفوذ اقتصادى ، وفرضت على الاقتصاد الروسى ـ متوسط الحجم ـ ما قد يصل إلى نحو عشرين ألفا من أصناف العقوبات ، وكانت واشنطن هى رأس الحربة وقائدة التحالف كله ، ولم تكن النتائج خلال أكثر من ثلاثة أعوام من الحرب مما يسر قلب الغرب ، فقد صمد الاقتصاد الروسى على نحو مذهل ، ووسعت روسيا أسواقها بالاتجاه إلى الجنوب والشرق بدلا من الغرب ، وصار الاقتصاد الروسى ينمو بمعدلات لم تتح له حتى قبل الحرب ، وضاعفت روسيا إنتاجها الصناعى العسكرى التقليدى والنووى ، وبصورة تجاوزت إنتاج الغرب كله ، سواء كان الغرب الأصلى فى أوروبا وأمريكا ، أو امتداده السياسى فى دول اقتصادات كبرى تقع جغرافيا فى الشرق أو الجنوب الآسيوى ، وبدت معضلة حرب أوكرانيا مستنزفة منهكة للطاقة الغربية كلها ، وعلى نحو صدم التوقعات الأمريكية الأولى باستنزاف وتفكيك روسيا ، التى لم تبدل عنوانها المفضل فى الحرب المعروف باسم “العملية العسكرية الخاصة” ، ولم تعلن أبدا حالة الطوارئ ولا التعبئة الكاملة ، ومع ذلك كان حصاد الميدان العسكرى لصالح روسيا ، ونجحت التعبئة العسكرية الروسية المحدودة بنسبة 1% لا أكثر ، وتابعت تقدمها العسكرى فى المقاطعات الأوكرانية الأربع ( لوجانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون ) التى قررت روسيا ضمها رسميا ، إضافة لسيطرتها السابقة منذ 2014 على شبه جزيرة “القرم” وميناء “سيفاستوبول” ، ورغم تضحيات الروس ربما بمئات الآلاف من القتلى والجرحى ، ورغم اختراقات غربية جرت فى الحرب من وراء القناع الأوكرانى ، كان آخرها التوغل المفاجئ فى مقاطعة “كورسك” الروسية أوائل أغسطس 2024 ، إلا أن الروس وكما كان قانون حروبهم الوجودية الكبرى ، تحملوا التراجعات والهزائم الخاطفة ، ثم عادوا إلى سيرة الانتصار فى النهاية ، وهو ما دفع “ترامب” إلى التفكير الواقعى تماما ، والسعى لسحب واشنطن من المستنقع الأوكرانى ، والبحث عن تعويض مالى لخسائر أمريكا ، واسترداد 375 مليار دولار دفعتها واشنطن عبر اتفاقية “المعادن النادرة” مع الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى” ، التى لاتزال مفاوضاتها جارية إلى اليوم ، ويفترض أن نصوص الاتفاقية لاتزال مطروحة للبحث ، ويتفاوض عليها الأوكران فى واشنطن ، التى تريد كسب 500 مليار دولار من عوائد “المعادن النادرة” فى الأراضى الأوكرانية ، ومن دون التزام أمريكا بتقديم ضمانات أمنية دائمة ، ولا بوجود عسكرى على الأراضى الأوكرانية ، ولا تعهدا بضم أوكرانيا فى أى وقت إلى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، ومع استعداد علنى من “ترامب” للتنازل عن الأراضى الأوكرانية التى تريدها روسيا ، وهو ما يتجاوب بالطبع مع مطالب الرئيس الروسى ، الذى لا يبدو فى عجلة من أمره ، ويريد اعتصار عوائد أكبر من فرصة “ترامب” ، وهو ما بدا من خطط تصرفه فى جولات التفاوض مع الأمريكيين ، ففى مفاوضات “الرياض” ، نجحت الوفود الروسية فى سحب الأمريكيين إلى “خية” التفاصيل ، ولم تتجاوب مع رغبة الأمريكيين فى إعلان اتفاق وقف إطلاق نار شامل ، وطرحت صورا جزئية من وقف إطلاق النار ، كما الاتفاق الذى لم ينفذ على وقف قصف منشآت الطاقة ، أو وقف مهاجمة السفن التجارية فى البحر الأسود ، مع اشتراط روسيا فك كل القيود والعقوبات الغربية على تصدير القمح والأسمدة الروسية ، وهكذا وضعت روسيا العصى فى العجلات ، ولم تمكن “ترامب” من الزعم بتحقيق أو التقدم إلى رهانه بوقف الحرب ، بل دقت المزيد من الأسافين بين حلفاء “الناتو” على جانبى المحيط الأطلنطى ، واستمرت فى إذكاء الخلافات بين الأوروبيين وأمريكا “الترامبية” ، واحتفظت لنفسها بفرص مواصلة الحرب ومراكمة انتصارات الميدان بعد تحرير “كورسك” كلها تقريبا ، والشروع فى توسيع مناطق حدودية عازلة تريدها روسيا فى مقاطعات “خاركيف” و”سومى” و”تشيرنيهيف” الأوكرانية ، إضافة لكسب الوقت والحيلولة دون تفجير العلاقة الحسنة الناشئة والمتطورة مع أمريكا “ترامب” ، وتحويل الاهتمام إلى بحث العلاقات الثنائية بين واشنطن وموسكو ، على نحو ماجرى ويجرى فى الجولة الثانية من مفاوضات “اسطنبول” ، المنصرفة بالكامل إلى المسار الثنائى الروسى الأمريكى ، ومن دون ارتباط عضوى بالمسألة الأوكرانية ، وبهدف إنهاء القطيعة الممتدة بين البلدين ، ودفع “ترامب” إلى اتخاذ خطوات ومبادرات فى تفكيك أو حتى إنهاء سلاسل العقوبات المفروضة سابقا على روسيا ، وهو ما قد يجد صداه فى نفس “ترامب” وسلوكه ، الذى يبدو أكثر استعدادا لقطيعة أكبر مع الأوروبيين بالتواقت مع توثيق الصلات والمنافع الاقتصادية مع الروس .
وفى المحصلة إلى اليوم ، تبدو أهداف لعبة “بوتين” مع “ترامب” مما يمكن استنتاجه ، فهو ـ أى “بوتين” ـ يريد بناء علاقات أوثق مع واشنطن ، واستثمار اندفاعات “ترامب” فى تعميق هوة خلاف واشنطن مع الأوروبيين ، الذين يواصلون إعلان تصميمهم على دعم أوكرانيا بالمال وبالسلاح ، ويلوح بعضهم بإرسال فرق عسكرية للقتال مع أوكرانيا ، ويطمح بعضهم إلى تطوير صناعة سلاح أوروبية ضخمة ، قدروا تكاليفها الأولى بنحو 800 مليار “يورو” حتى عام 2030 ، وبدعوى تجهيز أوروبا للدفاع عن دولها فى مواجهة الخطر الروسى ، ومن دون اعتماد على الحماية الأمريكية ، التى يهدد “ترامب” بسحب أرصدتها ، إن لم يدفع الأوروبيون ما يطلبه من نفقات عسكرية ، وإن لم يفتحوا أسواقهم بلا عوائق للسيارات والمنتجات الغذائية الأمريكية إضافة لصادرات الطاقة ، ويتصور “ترامب” ، أن دول الاتحاد الأوروبى ستجثو على الركب فى مفاوضات ما بعد زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية إلى 25% ، فيما تبدو أوروبا فى غاية الارتباك والتخبط ، ويفكر بعض الزعماء الأوروبيين كما الرئيس الفرنسى “إيمانويل ماكرون” ، أن يعودوا لفتح خطوط تواصل مع “بوتين” ، الذى يواصل الرهان بنفس هادئ على خلافات المعسكر الغربى ، ومن دون التفريط فى أوراق روسيا الرابحة ، سواء فى ميدان الحرب الأوكرانية ، أو فى صلات “العروة الوثقى” التى صارت تجمعه مع الصين الزاحفة إلى عرش العالم اقتصاديا وتكنولوجيا ، وكشرت من أنيابها فى مواجهة رسوم “ترامب” الجمركية المضاعفة إلى 104% ، وردت وترد عليها الصين بصفعات قوية ، لا تكتفى بمبدأ المعاملة بالمثل فى الحروب التجارية ، بل تحرم واشنطن من إمدادات “المعادن النادرة” الضرورية للصناعات التكنولوجية ، وتتمتع فيها الصين بتفوق حاسم ، إذ تنتج الصين 271 ألف طن من “المعادن النادرة” سنويا ، بينما أمريكا لا تنتج سوى 40 ألف طن سنويا ، و”بوتين” يراهن بالأساس على تمتين تحالفه الاقتصادى والعسكرى مع الصين ، ودعم التحول إلى عالم متعدد الأقطاب ، ومواصلة سعيه بالتعاون مع الصين فى إنهاك وشق التحالف الغربى ، ولا مانع عنده من استثمار اندفاعات “ترامب ” للتعجيل بكسب الرهان العالمى .