
حوار خاص مع الأستاذ الجامعي والباحث المتخصص في تاريخ الدروز، سعيد أبو زكي
في هذا الجزء الثالث والأخير من الحوار الذي أجرته “جريدة الحرة“ مع الأستاذ الجامعي سعيد أبو زكي، وهو باحث متخصّص في تاريخ الدروز، ولا سيّما تنظيمهم الديني، نغوص أكثر في أبعاد القضية الدرزية، خصوصًا من حيث علاقة القيادات الدرزية اللبنانية (مثل وليد جنبلاط) ودروز السويداء وتأثيرها على موقف الطائفة، إضافة إلى مستقبل الطائفة وسط الاضطرابات الإقليمية والموقف السياسي للقيادات الدرزية في محافظة السويداء تجاه الحكومة السورية الجديدة.
كيف أثرت العلاقة بين القيادات الدرزية اللبنانية (مثل وليد جنبلاط) ودروز السويداء على موقف الطائفة؟
من يتابع خطابات مشايخ العقل في السويداء يلاحظ أنهم يعبّرون، بكل احترام، عن تقديرهم للقيادات الدرزية السياسية والدينية في لبنان. غير أن هناك نقطة مهمة تتعلّق بالتراث السياسي لدى الطائفة الدرزية. ففي تاريخ دروز بلاد الشام، برز العديد من علماء الدين، من بينهم الشيخ الفاضل محمد أبو هلال (توفّي عام 1640)، الذي عاصر الأمير فخر الدين المعني الكبير (توفّي عام 1635)، ويُعدّ ثاني أبرز مرجعية دينية في تاريخ الدروز بعد الأمير السيد عبد الله التنوخي (توفّي عام 1479). وقد أوضح الشيخ الفاضل أن المرجعيات الدينية الدرزية في مختلف المناطق تحترم خصوصية كل منها، انطلاقًا من القاعدة التالية: “يرى القريب ما لا يراه البعيد“؛ أي أن أبناء المنطقة هم الأدرى بمصالحها وظروفها وهواجسها. ولذلك، لا يتمّ التدخّل في شؤونهم إلا عند الضرورة، سواء للتشاور، أو تبادل الآراء، أو مناصرتهم في وجه ظلم واقع؛ وحينها يكون التدخّل من باب تقديم العون والمساندة.

وتُفسّر هذه القاعدة وجود ثلاثة مشايخ عقل في جبل حوران تتقاسمها العائلات التي ذكرنا: الهجري وجربوع والحناوي، ويتولى كلّ منهم الإشراف على منطقة محددّة. وتجدر الإشارة إلى أن التراتبيّة التي ذُكرت في بداية المقابلة هي تراتبية معنوية واجتماعية، بينما يتساوى مشايخ العقل الثلاثة في الوظائف الدينية والاجتماعية والسياسية التي يضطلعون بها. ولا يعني هذا وجود تباعد أو عداوة بين المجتمعات الدرزية المتفرقة في بلاد الشام؛ بل على العكس من ذلك، فقد تميّزوا بتماسك وتعاضدد شديدَين عبر المراحل التاريخية كافة.
على سبيل المثال، حدثت في العام 1934 أزمة في فلسطين كانت موجّهة ضد الشيخ أمين طريف (توفي عام 1993)، جدّ الشيخ موفق طريف، رئيس الدروز الروحي في فلسطين المحتلة. فبادر أعيان مشايخ لبنان، وبخاصة مشايخ خلوات البياضة في حاصبيا، إلى مسعى للصلح بين دروز فلسطين نظرًا لحاجتهم لحَكَم موثوق ومحايد للمساعدة في حلّ النزاع القائم بينهم، ونجحوا بذلك. كذلك في العام 1947، عندما حدث نزاع داخلي بين دروز جبل حوران سمّي بـ”الثورة الشعبية الثانية” ضدّ بيت الأطرش، قام الراحل الشيخ أمين طريف بمسعى لحل النزاع، حيث ذهب إلى دمشق والتقى شكري القوتلي، رئيس الدولة آنذاك، بهدف حقن دماء الدروز في جبل حوران وصيانة وحدتهم الداخلية عبر إنهاء الصراع فيه.

لكن بعيدًا عن الأزمات الكبرى، كل بلد أدرى بشؤونه، والآخرون يحترمون قراراته التي تنبع من خصوصياته ومصالحه وأمنه. في العام 2011، عندما اندلعت الثورة السورية، تبنّى وليد بك جنبلاط الثورة ودعا دروز سوريا للانضمام إليها بشكل علني. لكن خلال إحدى زياراتي للرئيس الروحي لدروز لبنان وقتذاك، الشيخ أبو محمد جواد ولي الدين في بعقلين (توفّي عام 2012)، قال لي صراحة إنه ليس مع خطاب جنبلاط، بل أنّ أعيان مشايخ الدروز في لبنان يفضّلون عدم التدّخل في شؤونهم، لأنّ مشايخ جبل الدروز (أي السويداء) أدرى بظروفهم وكيفية حماية وجودهم. وهذا يثبت محوريّة السياسة التي ذكرتها.
في ضوء ما أوضحت، يمكن أن نفهم تشديد الشيخ موفق طريف، وذلك عندما يُسأل عن خطابات وليد جنبلاط، على ضرورة احترام خصوصيّات الدروز في كل بلد. ونلحظ المسألة نفسها في خطاب مشايخ عقل الدروز الثلاثة في محافظة السويداء حيث يحرصون على ذكر احترامهم لزعامة آل جنبلاط وتقديرهم لمكانتها التاريخيّة، ولكن يطلبون تفهّم حاجتهم لتدبير شؤونهم بأنفسهم اتّباعًا للمثل الشعبي القائل بأنّ “أهل مكّة أدرى بشعابها”. وقد يفسر الإعلام هذا الاختلاف في الآراء بشكل غير دقيق. كما يظهر حرص هذه المرجعيات على عدم التدخل في الشؤون الداخلية وكأن هناك نفورًا أو مشاكل بين القيادات الدرزية، لا سيما مع آل جنبلاط. إلّا أن الغرض منه، كما ذكرت، هو احترام حق القيادات الدرزية الدينية والسياسية في كل منطقة من مناطق تواجد الدروز بتدبير شؤونهم وفق ظروفهم وشروطهم، وبما يضمن مصالحهم وسلامة وجودهم.

ومن الأهمية بمكان إيضاح أن للدروز في مناطق تواجدهم في بلاد الشام مشايخ دين مقدَّمين، هم أصحاب الولاية الدينية القائمة على الإرشاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبيان الحلال والحرام. ويتمتع هؤلاء المشايخ باعتبارٍ روحي وسلطةٍ دينية تفوقان اعتبار مشايخ العقل وسلطتهم. وعلى الرغم من أنهم لا يشغلون أي منصب رسمي في دولهم، ولا يحملون ألقابًا خاصة، فإن الدروز يعدّون هؤلاء المشايخ المرجعيات الروحية الأولى لديهم، ورؤساء الدين الفعليين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يُعدّ الشيخ أمين الصايغ المرجع الديني لدروز لبنان في وقتنا الراهن، كما يُعدّ الشيخ صالح القضماني المرجع الديني لدروز فلسطين المحتلة.
وقد تجتمع الولاية الدينية مع مشيخة العقل أحيانًا، كما كان الشيخ أمين طريف (توفي عام 1993) في فلسطين المحتلة. وأحيانًا أخرى، يكون المرجع الديني الأعلى من عائلة تتوارث منصب شيخ العقل، ولا يشغل هو هذا المنصب، كما كان الشيخ أبو حسين محمد الحنّاوي (توفي عام 2010). ويعود ذلك إلى أن مقام المرجع الديني الأعلى يخضع لاعتبارات العلم والفضيلة والتحقّق الروحي، ولا يمكن أن يُقيَّد بالتوريث العائلي. لذلك، فإن مقام شيخ العقل في لبنان وسوريا، والرئيس الروحي في فلسطين المحتلة، لا يتطابق بالضرورة مع مقام رئيس الدين الفعلي لدى الدروز. وقد شرحتُ هذا الأمر من منظور تاريخي في كتابي “مشيخة عقل الدروز في لبنان: بحث في أصولها ومعناها وتطورها“، الصادر عام 2021 عن دار المشرق في بيروت.
تنويه: اطّلعتُ على وثيقة تُظهر – بالاستناد إلى المأثور العائلي – سلالة المشايخ آل جربوع، وتذكر أن الشيخ المؤسّس لمشيخة العقل في عائلتهم، والمعاصر لحرب اللّجاة ضدّ جيش محمد علي باشا وثورة عام 1852 ضدّ العثمانيّين، كان الشيخ أحمد جربوع (توفي عام 1858)، وهو جدّ الشيخ أبو يوسف حسن جربوع (توفي عام 1929) الذي ذكرته في بداية المقابلة.

كيف تنظر القيادات الدرزية إلى مستقبل الطائفة وسط الاضطرابات الإقليمية؟
لا تزال الأمور غير واضحة، وكما ذكرت، هناك تاريخ ملطّخ بالدماء مع أركان النظام الجديد. لكن القيادات الدرزية في سوريا مستعدة لتخطي هذا الماضي بشرط أن ينتهج النظام السوري الجديد سياسات وطنيّة عادلة، ويقدّم ضمانات فعلية للمكونات السوريّة المتنوعة، وهو ما لم يظهر حتى اليوم بشكل واضح. وهنالك نقطة أساسية يغفل عنها الإعلام وبعض السياسيين في لبنان، وهي الحملات التي تشهدها مواقع التواصل الاجتماعي ضد دروز سوريا، والتي تقوم بها بعض الشخصيات والجماعات المتطرّفة بسبب مواقف قيادات الطائفة السياسية المرتبطة بالأزمة السوريّة. وتتركز هذه الحملة على البعد الديني، ما يزيد من هواجسهم. إذا كان الغرض هو بناء وطن لجميع أبنائه، فكيف يُسمح لهذه الحملات بالاستمرار دون رقابة أو محاسبة؟ وما الهدف منها؟ هل هو إضعاف موقف الدروز في السويداء لإخضاعهم لإرادة النظام الجديد من دون الاستجابة لمطالبهم المحقّة؟
يتساءل دروز سوريا اليوم: هل هذه مكافأتهم على مواقفهم الوطنية خلال الثورة؟ ماذا لو أنّ الآلاف من شبابهم لم يرفضوا الخدمة العسكرية، وانضموا إلى جيش النظام في الاقتتال الداخلي؟ ألم يكن ذلك ليُعزّز قدرة نظام الأسد على القضاء على جزء كبير من فصائل المعارضة المسلحة؟ الرقم الذي ذُكر سابقًا، 12,000، كان خلال السنتين الأوليين فقط من الثورة؛ ما يعني أن العدد الإجمالي للدروز المتخلّفين عن الخدمة العسكرية خلال مدّة الثورة – أي 14 سنة – ربما تجاوز الستين ألفًا! وهذا عدد كبير بلا شك، وقد أضعف قدرة نظام الأسد على حسم المعركة ضد المعارضة المسلّحة. وأبرز دليل على ذلك، لجوء النظام إلى استقدام مقاتلين أجانب لتعويض النقص في عدد قواته.

أما ما يُتداول بشأن احتمال نشوء دولة درزية في حال حدوث خلاف مع النظام الجديد، فيستدعي طرح سؤال مهم على النظام: ما الحل لإزالة هذا الهاجس؟ الجواب، ببساطة، يتمثّل في احتضان دروز السويداء؛ خاصة وأنّ مطالب القيادات الدرزية تُعدّ مطالب مشروعة. وإلى جانب ذلك، من الضروري تفهّم هواجسهم وتقديم تطمينات جدية، خصوصًا في ظل تنامي هذه المخاوف بعد أحداث الساحل المأساوية، التي لاقت صدىً دوليًا وأثّرت على صورة النظام وطريقة التعامل معه. وأؤكد مجددًا، أنّ من مصلحة النظام الجديد، بل ومن مصلحة سوريا ككل، بناء علاقات متينة مع دروز السويداء، بما يُعزّز شرعية النظام ويساهم في الحفاظ على وحدة البلاد.
كما يجب التركيز على الخطاب الإيجابي الذي يعتمده مشايخ العقل والقيادات الدرزية الفاعلة وقادة الفصائل المسلحة في محافظة السويداء، والذي يشدّد على صلابة انتمائهم إلى وطنهم وحرصهم على سلامة سوريا ووحدتها، لأنّهم صادقون بذلك. أمّا في ما خص مسألة المشاركة السياسية، فمشايخ العقل والقيادات السياسية التقليدية في الجبل لا يطالبون النظام الجديد بإعطائهم أدوارًا سياسية، بل يشيرون إلى توافر قيادات سياسية واجتماعية كفوءة ومؤهلة في مجتمع السويداء قادرة على تولي المناصب العامة في المحافظة لخدمة أهلهم فيها، وفي الدولة المركزية، من أجل خدمة وطنهم وتحقيق المشاركة الوطنية الفاعلة التي هي الضمانة الوحيدة لوحدة سوريا واستقرارها وازدهارها. كذلك، يطالبون بأن يكون لهذه القيادات دور يعكس تمثيلًا عادلًا لمكونات المجتمع السوري؛ وهم يؤكدون مرارًا وتكرارًا أنّه لا مجال لمشاريع تقسيمية عندهم كما يتم الحديث في الإعلام.
في هذا السياق، كيف يمكن توقّع الموقف السياسي للقيادات الدرزية في محافظة السويداء تجاه الحكومة الجديدة؟
لم يصدر بعد أي قرار واضح من القيادات الدينية أو السياسية الدرزية في المحافظة يوضح موقفهم الرسمي من الحكومة التي تشكلت مؤخرًا، والتي تحتوي وزيرًا درزيًا واحدًا من أصل 23، وهي نسبة توازي تقريبًا نسبة الدروز من مجمل سكان سوريا.
بدايةً، من يتابع خطابات قادة الدروز الدينيين والسياسيين في المحافظة يستنتج أن تشكيل هذه الحكومة لن يساعد في إصلاح العلاقة المضطربة بينهم وبين النظام الجديد، بل ربما يزيد من توترها. وتجدر الإشارة إلى أنّ الأكراد رفضوا الاعتراف بالحكومة أو التعامل معها. ثانيًا، إنّ إرساء نظام سياسي يعتمد على النسب الديموغرافية في تأطير بنية الدولة وتوزيع المناصب الرسمية والوظائف الإدارية لا يبني أوطانًا مستقرة ومزدهرة. وأوضح دليل على ذلك، الأزمات الطائفية المتكرّرة التي دمرت لبنان في القرنَيْن الماضيين بسبب هذه المقاربة الخاطئة للحكم. ففي السياسيات الوطنية التي تطمح إلى الإزدهار والوحدة بعد حرب أهليّة مدمّرة، ثمّة ما هو أربح بكثير من اعتماد العدالة العددية. وإذا سُئلت هل من شيء يسمو على العدل؟ أقول نعم: الكرم والعفو؛ وأبناء الوطن الواحد، إذا ما رغبوا بالوحدة الوطنيّة والعيش المشترك، فهم بحاجة إلى فضيلتي العفو والكرم. وبحسب المثل الشعبي، “إن أكرمت الكريم ملكته”، وأهل السويداء مشهورون بطباعهم الكريمة.
هذا إذا سلّمنا جدلًا بصوابية اعتماد المعايير الطائفية في بناء النظام الجديد، وهو أمر لا يتفق مع مندرجات قرار مجلس الأمن رقم 2254. ومع ذلك، حتى إذا اعتمد التوزيع الطائفي، ولأجل إيضاح الفكرة لا غير، أسأل: هل يضعف تمثيل السنّة ونفوذهم السياسي إذا كان هناك مثلًا ثلاثة وزراء لكل من الأكراد والعلويين، ووزيرين لكل من الدروز والمسيحيّين؟ فبهذه المعادلة يحتفظ السوريون السنّة بـ55% من المقاعد الوزاريّة، أي بأغلبية مريحة لاتخاذ القرارات. غير أنّ هكذا توزيع للمناصب الوزاريّة يُعطي دلالة واضحة للمكوّنات الأخرى على رغبة الأكثريّة السنيّة بإشراكهم في القرارات الوطنيّة وإدماجهم بالدولة، ما يثبّت الوحدة الوطنيّة ويدعم الاستقرار، ويقوّي شرعيّة النظام الجديد لدى كافة مكونات الشعب السوري. ومع ذلك، أقول ثانية، إن تجربة اعتماد الديمغرافيا لتبرير أكثرية عدديّة تشرّع استئثار طائفة واحدة بالسلطة المركزيّة للدولة هو نظام حكم يولّد باستمرار أزمات سياسيّة وحروب أهلية تهدم الأوطان بدل أن تبنيها، كما الحال في لبنان.
ختامًا يبقى موقف مشايخ العقل في السويداء انعكاسًا لمعادلة معقّدة تجمع بين الالتزام بالمبادئ الدينية، والحرص على أمن الطائفة ومستقبلها، والتفاعل مع التحولات السياسية. فبين رفض تسليم السلاح خشية على أمن الجبل، والتحفّظات على الدستور المؤقت، والمخاوف من التدخلات الخارجية، تتضح ملامح المشهد الدرزي في سوريا اليوم. لكن إلى أين تتجه هذه القيادات في ظلّ مستقبل مفتوح على احتمالات عديدة؟ وهل يمكنها الحفاظ على استقلالية القرار وسط الضغوط الإقليمية؟ أسئلة تظل مفتوحة في انتظار تفاعلات الواقع السياسي، الذي لا ينفك يفرض تحديات جديدة على جبل العرب وأهله.