
ثمة ما يُشبه الانكسار الحيّ في هذا النص، وما يشبه النُبل في زمن الاغتراب. لا يكتب د. أحمد عياش شعراً بالمعنى التقني أو القاموسي للكلمة، بل يكتب نَفَساً داخلياً، مشحوناً بكل ما في الإنسان من اضطراب وحنين، من وجعٍ سياسي، وهربٍ عاطفي، وتيهٍ وجودي.
هو نصّ لا يُرتّل ولا يُلقى، بل يُهمَس به لنفسٍ تقف على هاوية المعنى.
“صديقان، رفيقان نحن…”
العبارة الأولى تُختصر بها المسافة بين الحب والسياسة، بين الانتماء الشخصي والانتماء الجمعي. فالصداقة هنا ليست “علاقة”، بل حالة نضالية، توثيقٌ عاطفي في دفتر الثورة. نقرأها فنشمّ رائحة الرفاق في الزنازين، ونرى خطواتهم على جبهات المنفى.
يتلبّس النصّ “الفدائي” كقناع وجودي، لا بوصفه مقاتلاً في التنظيم، بل مجازاً للهوية المقاومة التي تنهار أمام الحب وتعيد تشكيل نفسها من رمادها:
> “أنا آخر فدائي لا يغادر الحرب.”
جملة تختصر كل ملحمة الاستمرار وسط الخسارات، لا كذخيرة، بل كأنفاس.
كل محاولة للهروب من الذات – عبر التخفّي، أو “تغيير لون البشرة”، أو التخفي في دورات تقوى زائفة – تنتهي بالفشل. هنا تبلغ المفارقة ذروتها: الهروب يقود إلى المواجهة. كل محاولات التبخر، العروج، التلاشي، لا تُسفر عن خلاص. بل تعيد البطل إلى النقطة ذاتها، حيث لا مهرب من الحب، ولا مهرب من الثورة.
> “تقتربين…”
مع كل اقتراب لها، يتفكك قناعه أكثر، ويكاد يموت ليحيا. وكل مرة تقترب، يخترع لنفسه طريقة جديدة للهرب، لا لأنه يكرهها، بل لأنه لا يحتمل أن يُكسر أمامها. وكأن اقترابها إعلان سقوط سلاحه الأخير.
والنهاية…
> “يا فدائي، صديقان نحن، رفيقان نحن إلى أن ينام القمر…”
الأنثى هنا ليست فقط الحبيبة، بل أيضًا الوطن، الثورة، الحلم المؤجل. حضورها كاشفٌ وساخرٌ وعميق. هي تراه كما هو، رغم كل الأقنعة. تصيح به لا لتوبخه، بل لتمنحه غفراناً وجدانياً.
الخاتمة:
نص د. أحمد عياش هو أكثر من بوح. هو مراوحة بين البقاء والانهيار، بين التقوى والثورة، بين الجدار والحب. إنه قطعة من نفس فدائي يكتب مذكراته في ممر هروبٍ طويل، قبل أن تصيح به امرأة عرفته قبل كل أسماله.
في زمن كثر فيه الهاربون بأسماء مستعارة، نحتاج لمن يكتب بهذا الصدق العاري.