
عند وفاة النبي – ص ، لم يكن قد وضع للدولة الإسلامية أي تشريع يبين شكل الحكم فيها ، وكان عدم النص على نظام الحكم في الدولة الإسلامية هو أخطر مشكلة واجهت المسلمين بعد وفاة النبي ، فقد كان النظام القبلي السائد في الجزيرة العربية هو أقرب الأنظمة الى أذهانهم في اختيار رئيس القبيلة ، فأخذوا به في اختيار رئيس الدولة الإسلامية .
في اليوم الذي توفي فيه رسول الله وقبل أن يوارى في مثواه الأخير تداعى الصحابة من مهاجرين وأنصار ، الى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة للتداول في أمر تنصيب أمير عليهم يخلف النبي في رئاسة الدولة ، ولم يكن بين أيديهم أي نص مكتوب يبين شكل الحكم في الإسلام أو كيف ينصبون أميراً عليهم سوى الأعراف القبلية السائدة في الجزيرة العربية فرجعوا إليها واقتبسوا منها نظاماً للحكم في الإسلام .
فرئاسة القبيلة في النظام القبلي لم تكن وراثية بالمعنى المتعارف عليه لدى الشعوب الأخرى ، وإنما كان لدى العرب طريقتان لاختيار رئيس القبيلة هما : طريقة الاستخلاف وطريقة الشورى فطريقة الاستخلاف هي أن يسمي رئيس القبيلة في حياته خليفة من بعده كأن يختار ابنه الأكبر إن كانت شروط الزعامة متوفرة فيه ، وأهمها العقل والبلوغ ، إذ لا يجوز في العرف القبلي تسمية طفل دون سن البلوغ لولاية العهد .
والطريقة الثانية في النظام القبلي هي طريقة الشورى لاختيار رئيس القبيلة ، وتكون عندما لا يعين رئيس القبيلة خليفته في حياته كأن يقتل أو يموت فجأة أو يتعمد تركها شورى بين شيوخ القبيلة الذين يطلق عليهم أهل الرأي أو أهل الحل والعقد ، وعندما يتم اختيار رئيس القبيلة بالاستخلاف أو بالشورى تتم البيعة له من جميع أفراد القبيلة ، والبيعة في النظام القبلي هي عهد متبادل بين رئيس القبيلة الجديد وبين أفراد رعيته ، فهو يعاهدهم على القيام بخدمتهم ورعاية مصالح القبيلة ، وهم يعاهدونه على الطاعة والولاء له ، وتكون المبايعة بالمصافحة بالأيدي على الطريقة التي يجري بها عقد البيع .
ولما كان الشائع بين المسلمين عند وفاة النبي – ص ، أنه لم يستخلف أحداً وأنه تركها شورى بين المسلمين فقد كان يتعين على الصحابة حل مشكلتين أساسيتين لتطبيق النظام القبلي على مستوى الدولة بعد أن انضمت اليها جميع قبائل الجزيرة العربية ، المشكلة الأولى : تحديد من هم أهل الحل والعقد في الإسلام الذين يحق لهم اختيار خليفة رسول الله ، والمشكلة الثانية : من أية فئة أو قبيلة يكون الخليفة .
وقد حُلت المشكلة الأولى في الاجتماع الذي عقده المهاجرون والأنصار في سقيفة بني ساعدة ، في نفس اليوم الذي توفي فيه رسول الله ، فقد اعتبروا أنفسهم أنهم أهل الرأي وأهل الحل والعقد في الإسلام دون سائر العرب وأن لهم وحدهم حق اختيار خليفة رسول الله ولم يشركوا أحداً معهم ممن أسلموا بعد فتح مكة ، أما المشكلة الثانية فقد قامت حولها منازعات ومنافسات بين المهاجرين والأنصار ، إذ كانت كل فئة تسعى لأن تكون الخلافة فيها ، وقد رشح الأنصار سعد بن عبادة لخلافة رسول الله واحتجوا بأن الخلافة يجب أن تكون فيهم لأنهم نصروا النبي – ص ، وآووه وأخضعوا العرب بسيوفهم للإسلام ، بينما احتج المهاجرون بأنهم عشيرة النبي ويجب أن تكون الخلافة فيهم طبقاً للتقاليد العربية ، واسندوا الى النبي أنه قال : ( الخلافة في قريش ) أو الإمامة في قريش وقد تكلم عمر بن الخطاب في اجتماع السقيفة بمنطق عشائري كما يرويه المؤرخون فقال للأنصار : ” إن العرب لا ترضى أن يؤمروكم ونبيهم في غيركم ، ولكن العرب إنما تولي أمرها لمن كانت النبوة فيهم ، ولنا بذلك على أي من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ” ثم قال : ” من ذا ينازع سلطان محمد وإمارته ونحن عشيرته ” .
ودخل الطرفان في محاورات وملاسانات : المهاجرون يحاجون بأنهم عشيرة رسول الله وهم أولى بالأمر طبقاً للتقاليد العربية ،والأنصار يحاجون بأنهم نصروا النبي وكانت هجرته اليهم ، ودانت العرب بسيوفهم للإسلام وهم أحق بخلافة رسول الله ، وحدث انقسام في صفوف الأنصار بسبب العصبية القبلية التي دبت بين الأوس والخزرج ، فقد كان سعد بن عبادة الذي رشحوه لخلافة رسول الله هو سيد الخزرج ، وخشي الأوس إن تولتها الخزرج أن يستبدوا بها فلا تخرج من بين أيديهم ، وعلى أثر هذا الانقسام اتفقت جميع الأحزاب على أن تكون الخلافة في قريش عشيرة النبي – ص وتم في الاجتماع انتخاب أبو بكر لخلافة رسول الله .
وحدث انقسام آخر ولكن في صفوف المهاجرين فقد اعترض بنو هاشم على انتخاب أبي بكر فهو ليس من أسرة رسول الله وأن انتخابه من أسرة ثانية يتعارض مع الأعراف السائدة في الجزيرة العربية ورفضوا مبايعته في الاجتماع الذي عقد في اليوم التالي في المسجد .. وقد سأل علي بن أبي طالب الذي غاب عن اجتماع السقيفة لانشغاله في تجهيز رسول الله ودفنه فقال : ماذا قالت قريش ؟ قالوا : احتجت بأنها شجرة رسول الله ، قال احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ” وهو يعني بالثمرة أسرة رسول الله .
ومكث علي بن أبي طالب ومعه بنو هاشم ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر الى أن توفيت زوجته فاطمة بنت رسول الله وكانت نقمت على أبي بكر لأنه حرمها من إرث أبيها ،وبعد وفاة فاطمة أقدم علي على مبايعة أبي بكر وقال له عند اجتماعهما في بيت علي : ” لم نبايعك يا أبا بكر انكاراً لفضلك ولا نغاسة عليك بخير ساقه الله اليك ولكننا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً فاستبددتم به علينا