
ما زال البعض يحاول فهم السياسة الإقليمية بقواعد ما قبل “الطوفان” ،مما ينتج قراءات تبدو منطقية لكنها تفشل في قراءة المستجدات والتفاعلات اليومية في الاشتباك الإقليمي الحاصل، لذا يجب التأسيس على الآتي:
– “اسرائيل” الحالية لم تعد “إسرائيل” التي نعرف، فبعد ما أنتجه الطوفان، لم تعد “اسرائيل” دولة تقوم عسكريا على معادلة التحييد الإقليمي، عبر السعي إلى معاهدات سلام دائمة مع دول الطوق، والحرب المحدودة، وإدارة الاشتباك مع جبهتي لبنان وغزة..
– انتقلت “اسرائيل” بعد الطوفان إلى مفهوم الدولة الهشة، التي لم تعد حدودها الحالية تحميها وبالتالي، تغيرت كامل مفاهيم الأمن القومي الإسرائيلي إلي مفهوم الوجود “السائل”، والذي يعني بالضرورة أن تنساب لملء المساحات الرخوة ومناطق الفراغ حولها، فقد فشل النظام الإقليمي حولها، والذي تأسس بعد ٦٧ و ٧٣ من بناء استقرار طويل الأمد ،ومنع فاعلين جدد من تشكيل تهديد وجودي حولها..
– لذا فلا حل أمام “اسرائيل” للعيش بأمان كدولة “مستقرة” إلا بالتحول لدولة محاطة بمناطق أمان تخترق وجود جوارها الإقليمي.. بحيث تدافع عن نفسها داخل أرض العدو، ولا يتكرر مفهوم “الطوفان” مرة أخرى.. لذا ترى النظرة الجديدة في “إسرائيل” أنها أضحت في حالة حرب مستمرة.. حتى تشكيل جيوسياسة جديدة “لإسرائيل”.
– مع تحييد جبهتي غزة ولبنان، بمعنى أن الجبهتين لم تعودا ذات خطر وجودي حقيقي، وتصارعان للبقاء، والتحييد هنا لا يعني “الإنهاء” بل خصم كبير من قدرات الخصم تجعل تهديده أقل بكثير من السابق، من الناحية “العسكرية” حيدت “اسرائيل” أغلب الترسانة النوعية، وتبعه بالضرورة أثر الترسانة السياسي في المعادلة..
– تقوم” إسرائيل” الآن بمحاولة بناء منظومة سياسية في تلك المناطق “غزة ولبنان” تمنع من تشكل التهديد مرة أخرى، فالمقاومة ذات التشكيل العسكري الهرمي والتسليح النوعي والإطار الثقافي والاجتماعي تتطلب فضاءا سياسيا أشبه “بتربة صالحة” لكي تنمو فيه كل تلك التفاعلات مجددا، دون ذلك ستظل موارد المقاومة وسياقها لا ينتج غير تشكيلات متخفية متخففة.. وليس تراكماً كبيراً.
– كان نظام الأسد جزءا من ما يسمى “محور المقاومة” لكن “اسرائيل” نجحت وعبر دول إقليمية من إعادة تطبيع العلاقة معه إقليميا، وتحييده عن الحرب الأخيرة ،وكانت على وشك تطويعه بعد الحرب وتأهيله دوليا.. وهو وصفة تاريخية “لإسرائيل”:
– نظام مكروه من داخل أقلية حاكمة، يشعر بالخطر الداخلي من أكثريته وفي حالة مواجهة شاملة داخليا، وبالتالي تعد مصالحه في ترتيب وضعه الإقليمي أكبر من مصالحه في المواجهة مع “اسرائيل”.
– ودوما ما كانت “إسرائيل” تركن إلى معادلة “الاعتدال السني” في مقابل “المحور الشيعي” لتطمئن لكونها جزء من تحالف مصيري بين السنة المعتدلين، والشيعة الأصوليين، وتطمئن إلى أن تلك المعادلة ستجعل “إسرائيل” قائدة للمنطقة، مع ضمان تحييد الجيوب السنية ذات المزاج المقاوم وحملها على الانزواء.
– لمن لا يريد أن يفهم قواعد الصراع، ويصر أن يقرأه بمزاج يساري فقط، بمعنى أن “اسرائيل” وكيل “الهيمنة” الغربية الامبريالية، وبالتالي فالموقف منه موقف “يساري” مضاد للهيمنة، تقرأه اسرائيل ونحن على أنه صراع “ديموغرافي / طائفي” أيضا، بمعنى أن اعتبارات الديموغرافيا تشكل هاجساً كبيراً جدا ومحوراً رئيسياً في رؤية “اسرائيل” لنفسها..
– “اسرائيل” قدمت نفسها أصلا كحل ديموغرافي لليهود، وكذلك صدرت مشكلتها كمشكلة ديموغرافية، أقلية يهودية متفوقة، في بحر من العرب السنة المتخلفين ،والذين يريدون تكرار محرقة النازية.. وداخليا.. تعد المشكلة الديموغرافية أيضا أحد هواجس “إسرائيل”.. ولذا تخوض صراع هوية الدولة وأسرلة الداخل العربي، واختطاف الدروز ودمجهم، وهكذا..
– كان هذا الهاجس في شكله الإقليمي ممثلاً بدولتين، مصر وسورية ، مصر أكبر كتلة عربية سنية، وأكبر ترسانة عسكرية، وجيش احترافي كبير، تم تحييدها عبر التطويع والسلام، وأيضا تفريغ سيناء من وجود قريب وخلق مناطق عزل، وحصار اقتصادي، وأزمات محيطة بها، وسلطة سياسية غارقة في المشكلات
– أما سورية فكانت معادلة “حكم العلويين” تكفي لأن تجعل سورية ترى في الأكثرية السنية خطرا أكبر، وفي “إسرائيل” جبهة يجب أن تكون آمنة، وفي عناوين الممانعة أداة لخط إمداد من طهران وحتى دمشق، وبالتالي تواجد في المحيط السني عبر قضيته المركزية.. لكن كل الهندسة الأمنية موجهة للداخل، العدو الحقيقي وهم السنة..
– ما حدث في سقوط الأسد، بعد تحييد لبنان وغزة، وإضعاف إيران، كان ظاهره انتصارا كاملا” لإسرائيل”، لكن ما انتبهت إليه “إسرائيل” من أول يوم، أن ما حدث فتح عليها هواجس التاريخ وأبواب القلق، وحالة كاملة من إدارك حجم الخطر المحدق..
– ليست مشكلة “إسرائيل” التي يصدرها البعض هي “احتلال” أرض زائدة، لا تعاني “إسرائيل” من مشاكل إسكان ولا من محدودية أراضي، وإنما تعد مشكلتها الأساسية هي أنها تريد خلق عمق جغرافي يمنع احتمالية غزوها برا، ومنع تشكل أي نظام سياسي قادر على مراكمة القوة واختراقه..
– هذا يدفعها للدخول في مواجهة ليست مع “أقليات” إقليمية، وإنما هذه المرة هو دخول مباشر في اشتباك مع الأكثرية السنية، والتي تعد الشام ومصر كتلتاه الرئيسيتان، هذه حرب مع شعب وأمة أكبر، لا يمكن وصمها بأقلية أو توصيف الصراع بأنه ثنائي، بل وجودي..
– سوريه”الكابوس السني” الديمغرافي، ومساحة تطوير رؤى جديدة للصراع ومساحات جديدة للحلم الشعبي السني، فكرة أن تتحرر من نظامك وتمتلك دولة وتراكم القوة ويمثل نظامك أغلبيتك، ويقود تفاهمات سياسية داخلية وخارجية، ليست شيئا تقبله “إسرائيل”، لأنها ستكون أمام دولة تراكم القوة وتحسر حدودها، وهي تدرك جيدا أنها حالة طارئة في حال أصبح محيطها راسخ!
– لذا تعيش “إسرائيل” وسط الأنظمة القلقة، الحكام أبناء الأقليات، سواء كانوا أقليات قبائلية أو سياسية أو عسكرية أو ديمغرافية، مختلفون تماما عن جوهر أمتهم وشارعهم، قلقون دوما “كإسرائيل”، اتصالهم بالدعم الخارجي أكبر من اتصالهم بأمتهم وشعبهم ،ثقافتهم..
-سورية فتحت هذا الباب، وهذه المرة من دون نظام عسكري حليف للغرب، وإنما منظومة عسكرية تتشكل من مقاتلين ذوي طبيعة خاصة، وبدفع كامل من المنظومة الدينية السنية في الشام، وامتداد ثقافي مع كل شعوب المنطقة.. ورمزية دينية وتاريخية..
ما تفتحه سورية تحاول إغلاقه اسرائيل بحركة معاكسة.. وما يحدث في تلك المنطقة يشكل مصيرنا جميعا، لأنها في الحقيقة حربنا المؤجلة، وذاتنا التي تتشكل.