السبت، 17 مايو 2025
بيروت
27°C
غيوم قاتمة
AdvertisementAdvertisement

"إسرائيل" فى حساب التاريخ

كثيرا ما نضيع فى زحام التفاصيل ، ولا ننصت بما فيه الكفاية إلى صوت التاريخ ، وبالحساب الميلادى ، يعبر كيان الاحتلال “الإسرائيلى” لفلسطين إلى عامه الثامن والسبعين اليوم ، وتسمع من يبشرون ويهللون ويراهنون ـ ربما للمرة الألف ـ على تصفية القضية الفلسطينية ونهاية حلم التحرير الفلسطينى ، وتنظر حولك ، فترى ما قد يصدق ويسوغ هذه الأقوال الشائهة ، ترى “غزة” تحت النار والذبح والتجويع والإبادة على مدى عشرين شهرا مضت ، وترى الضم والاستيلاء الاستيطانى المتوحش عنوانا على ما جرى ويجرى فى الضفة الغربية بعد تهويد القدس ، وترى الواجهات والرايات الفلسطينية ممزقة تائهة ، وترى قوة الاحتلال تزحف إلى سورية بعد لبنان ، وترى الأغنياء فى أحوال “هوجة” و”زيطة” ، يضعون تريليونات الدولارات تحت أقدام مسيحهم المخلص “دونالد ترامب” ، الذى يضحك فى وجوههم وعلى الأقفية ، ولا يكاد اسم فلسطين يجرى على لسانه ، إلا من باب التندر والتأنيب ، بينما يدعو حوارييه إلى نسيان أو تناسى القصة كلها ، والتفرغ لسلام ورخاء موهوم ، تأتى به الحماية والرعاية الأمريكية ، التى قد تختلف مع حكومة “بنيامين نتنياهو” فى تفاصيل تكتيكية عابرة ، بينما تبقى عينها الأوسع ساهرة على دعم حركة التوسع “الإسرائيلى” إلى غير ما حدود ، و “ترامب” هو الذى قال مبكرا ، أن مساحة هذه “الإسرائيل” صغيرة جدا ، ولا بد من توسيعها ، وأن المستقبل الأفضل للفلسطينيين فى تهجيرهم إلى أوطان قريبة وبعيدة ، وأن “إسرائيل” ارتكبت خطأ عمرها ـ زمن “شارون” ـ بترك “غزة” ، المثالية فى رأيه لبناء عقارات جميلة و”ريفيرا” أجمل على شاطئ البحر المتوسط .
وقد تجرى تسويات موقوتة ، من نوع وقف إطلاق نار قصير المدى مقابل الإفراج عن بعض الرهائن “الإسرائيليين” ، لكنها لا تحول أبدا دون تجدد حرب الإبادة فى “غزة” ، ولا دون زحف “عربات جدعون” ودبابات “إسرائيل” إلى إعادة احتلال “غزة” بكاملها ، ولا دون عمليات الضم الفعلى فى الضفة الغربية ، ومن دون أى معارضة تذكر من “ترامب” ، ولا من الإدارة الأمريكية اليهودية الصهيونية بالكامل ، فقد يتضايق “ترامب” من عنجهية “نتنياهو” ، وقد يرى أنه ـ أى “نتنياهو” ـ يتجاوز دوره المرسوم فى اللعبة ، ويتصور أنه صانع القرار الأصلى فى مصالح ومستقبل “إسرائيل” ، بينما الدور الأعلى ، يجب أن يظل محجوزا للرئيس الأمريكى وإدارته ، التى هى حكومة “إسرائيل” فى واشنطن ، التى ينبغى لحكومة “إسرائيل” فى تل أبيب ، أن تنتظر منها الأوامر والتوجيهات والأضواء الخضراء والحمراء ، وقد تلاحظ أن “ترامب” لم يذكر “إسرائيل” علنا بحرف لوم أو بشبهة غضب ، ولا حتى ذكر “نتنياهو” القلق من تحركات “ترامب” وقراراته الأخيرة بصدد إيران واليمن ، ونسب الحرب الوحشية فى “غزة” إلى “حماس” وأخواتها من فصائل المقاومة الفلسطينية ، وإن أشاد ببادرة “حسن نية” من “حماس” بإطلاقها سراح “عيدان ألكسندر” الجندى “الإسرائيلى” ذى الجنسية الأمريكية ، ربما على أمل أن تستمع “حماس” لباقى نصائحه ، وأولها أن تنزع سلاحها بنفسها ، وألا تكون عائقا أمام خطة تهجير ملايين الفلسطينيين من “غزة” ، والمعنى ببساطة ، أن “ترامب” لم يكن يؤدى عملا مسرحيا متفقا عليه مع “نتنياهو” فى الأيام والأسابيع الأخيرة ، بل كان يتحرك فى مساحات خلاف تكتيكى ، ويريد أن يضع “نتنياهو” فى مكانه تابعا لا آمرا ، وفى سياق توافق استراتيجى أشمل ، يعيد صياغة الاندماج الاستراتيجى بين أمريكا و”إسرائيل” ، ويتيح له مقعد القيادة وحرية التصرف فى الملفات المطروحة ، حتى لو تأففت حكومة “نتنياهو” و”بن غفير” و”سموتريتش” ، ولا يلزم نفسه بغير المصالح العليا لكيان الاحتلال نفسه ، وفى كل المراحل الأمريكية ، كانت تثور أحيانا خلافات تكتيكية بين الرؤساء الأمريكيين ورؤساء الوزارات فى “إسرائيل” ، وكانت تختتم دائما بتأكيد أولوية مصالح “إسرائيل” البقرة المقدسة ، على نحو ماجرى ـ مثلا ـ بين “جورج بوش” الأب و”إسحق شامير” عشية مباحثات مدريد ( 1991)، ثم بين “باراك أوباما” و”بنيامين نتنياهو” نفسه ، وكان “أوباما” يضيق كثيرا بعجرفة “نتنياهو” ، وبخطاب “نتنياهو” أمام الكونجرس الأمريكى رفضا للاتفاق النووى الإيرانى ، وعاقبه “أوباما” وقتها بامتناع عن التصويت فى مجلس الأمن ضد قرار بإدانة الاستيطان “الإسرائيلى” ، كان أوباما وقتها يودع عهده ذى الفترتين ، ولا يطمع فى رئاسة ثالثة لا يسمح بها العرف الأمريكى ، وعلى الرغم من ذلك ، لم يترك البيت الأبيض من دون توقيع أمر بإتاحة 38 مليار دولار إضافية لتسليح الكيان وضمان تفوقه الإجمالى على كافة الجيوش العربية (!) .
وبالجملة ، وبالنظر الأوسع لمسرى التاريخ الجارى ، فقد لا يصح أبدا تصور إمكان فك الصلة العضوية الوثقى بين أمريكا و”إسرائيل” ، ولم يكن ذلك غائبا فى أى وقت عن بال قادة التفكير وقادة الممارسة ، وبالذات منذ توارى دور “بريطانيا” المؤسسة لكيان الاحتلال ، ؤرفيقتها “فرنسا” المؤسسة للبرنامج النووى “الإسرائيلى” ، وحلول الدور الأمريكى فى مواجهة مد التحرر العربى القومى فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين ، كان المفكر القومى الناصرى “جمال حمدان” ، يربط فيما كتب بين زوال “إسرائيل” ونهاية الهيمنة الكونية الأمريكية ، وكان جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967 بالذات ، يقول دائما أن إسرائيل هى أمريكا ، ومات واقفا على الجبهة الحربية فى سياق ما أسماه وقتها مرحلة إزالة آثار العدوان ، وفى المحاضر السرية لاجتماعاته القيادية منذ عدوان 1967 حتى ساعة رحيله ، كان عبد الناصر يصوغ من قلب المعاناة تصورا أو خطة تاريخية لحلم تحرير فلسطين ، كان العاجل فيها إزالة آثار عدوان 1967 ، بينما بلور الآجل فى خطوط تاريخية عامة ، كان العنصر الأول فيها ، أن تواصل مصر بالذات تطورها الطفرى فى مجالات التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجى ، وأن يجرى ردم الفجوة بيننا وبين الغرب ، الذى تعد “إسرائيل” قطعة منه ، وأن تدمج خطط تصنيع السلاح المتطور وحتى القنابل الذرية ، وكانت مصر وقعت بالأحرف الأولى على معاهدة منع الانتشار النووى فى يناير 1968 ، ولم يكن التوقيع وقتها ملزما كونه بالأحرف الأولى ، وجاءت عبد الناصر وقتها تقارير عن صناعة “إسرائيل” لأول رأس ذرى ، وهو ما دفعه لإعادة طرح تطوير مشروع مصر النووى الذى بدأ مبكرا ، وفى المحضر السرى لاجتماع مجلس الوزراء برئاسته فى 13 نوفمبر 1968 ، قال عبد الناصر نصا “إزاى نمشى فى الطاقة الذرية ، وبحيث نكون جاهزين فى أى وقت ، ونعمل reactor مفاعل بنفسنا علشان نطلع البلوتونيوم (…) نمشى فى سكة نعتمد فيها على نفسنا” ، وتطرق عبد الناصر فى الاجتماع نفسه إلى تفاصيل أخرى غير تخصيب اليورانيوم (نطلع البلوتونيوم) ، من نوع الاعتماد على ما أسماه “المخابرات العلمية” ونقل التصميمات فى الصواريخ وغيرها ، لم يكن يفكر فقط فى المدى المباشر وتحرير سيناء وغيرها ، بل كان يتطلع لما هو أبعد ، ويدمج قضية التحرير النهائى لفلسطين فى صلب عملية التقدم الطفرى علميا وصناعيا ، ثم كانت رؤيته للمشهد الدولى ظاهرة فى تصور الحروب الأخيرة لتحرير فلسطين ، كان يقول بوضوح أننا لن نستطيع خوضها بنجاح ، إلا حين تكون أمريكا متراجعة و”ملخومة” بالتعبير العامى ، فقد كان ربطه مباشرا صعودا ونزولا بين نفوذ أمريكا الكونى ووجود كيان الاحتلال ، وإضافة للعنصرين البارزين : التقدم العلمى وتراجع نفوذ أمريكا الكونى ، كان عبد الناصر يتحدث عن العنصر الثالث المطروح على الدوام ، وهو المقاومة الفلسطينية والمقاطعة العربية لكيان الاحتلال ، كان يقول عن المقاومة الفلسطينية أنها وجدت لتبقى و”سوف تبقى وتنتصر” ، وكان يعد المقاطعة ضرورة دائمة ، ويعتبرها تطبيقا لنظرية “السنطة وشعرة ذيل الحصان” فى الريف المصرى ، “السنطة” نتوء على سطح الجلد ، وكانت الخبرة المصرية الشعبية فى معالجته والتخلص منه ، أن يجرى شد شعرة من ذيل الحصان حول “السنطة” ، تحبس عنها الدم فتسقط من تلقاء ذاتها ، وكان عبد الناصر يقول أن هدف العدو هو إرغامنا على توقيع “اتفاق صلح” و”معاهدة سلام” ، وهو ما لن يحدث إلا حين تتغير وتسقط الأنظمة العربية المتحدية ، وهو ماجرى تباعا بعد رحيل عبد الناصر ، والانقلاب على اختياراته عقب حرب 1973 ، وإلى اليوم .
نعم ، ذهب عصر عبد الناصر وصحبه ، وجاء عصر الهوان العربى ، والدفع لأمريكا لتدفع بدورها إلى “إسرائيل” ، سقطت المقاطعة ، لكن المقاومة بقيت وتطورت ، وستبقى وتتطور على الرغم من تبدلات الخرائط ، وقد بتنا على عتبة عالم جديد متعدد الأقطاب ، تتراجع فيه سطوة أمريكا الكونية ، ويتجدد فيه أمل تحرير فلسطين ، على الرغم من المجازر والتجويع والإبادات ، وربما لا تكمل “إسرائيل” عامها المئة احتلالا وتمكينا ، وتلك قصة أخرى فى حساب التاريخ ، لا فى هوان اللحظة وتفاصيلها المذلة .

شارك الخبر
AdvertisementAdvertisement

إقرأ أيضاً

الاسد افشل الحريري .. سورية تذكره بالكهرباء!!

ذهب رفيق الحريري إلى القاهرة ، يشكو همه من سلوك الاسد الاب الذي كان يسلط مخبريه السياسيين...

ماذا يجري في العراق ؟

في وقت تؤكد فيه مصادر رسمية عراقية ، ان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ، سيرأس وفد بلاده...

العميل محمد هادي صالح والخيانات الاخرى المستترة...

في زمن بات فيه كثيرون يجهرون مواقفهم المؤيدة للسلام والتطويع مع العدو الأصلي “كحالة طبيعية”...

عن الذكاء الاصطناعي

يحدث استهداف في قرية ما، مباشرة تبدأ اتصالات الاهل والاصحاب بمن يفترض انهم من الشباب، سواء بهم او...

ماذا يجري في العراق ؟

في وقت تؤكد فيه مصادر رسمية عراقية ، ان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ، سيرأس وفد بلاده...

إن جآءكم فاسقٌ بنبإٍ فتبيَّنوا

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. قال الله تعالى في القرآن الكريم:{يآ أيها الذين ءامنوا...