الخميس، 1 مايو 2025
بيروت
20°C
غيوم متناثرة
AdvertisementAdvertisement

ذو الوجهين

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{يآ أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكُونوا مع الصَّادقين} سورة التوبة.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من شرِّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ” رواه مالكٌ في الموطأ والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما. وروى البخاري في الأدب المفرد وغيره عن عمَّار بن ياسرٍ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:”من كان ذا وجهين في الدنيا كان له لسانان يوم القيامة من نار فمر رجلٌ كان ضخمًا قال: هذا منهم”
قال المناوي في “فيض القدير” “يعني من كان مع كل واحدٍ من عدوين كأنه صديقه ويعدُه أنه ناصرٌ له ويذم ذا عند ذا أو ذا عند ذا، ويأتي قومًا بوجهٍ وقومًا بوجهٍ على وجه الإفساد” وقوله: كان له لسانان يوم القيامة من نار معناه: كما كان له في الدنيا لسانان عند كل طائفة. وهذا فيما ليس على طريقة الإصلاح والخير المرغَّب فيه فإنه إن لم يجد طريقًا ليُصلح بين مؤمنين متخاصمين إلَّا أن يكذب جاز له الكذب لهذا الغرض في هذه الحالة، فمن كان ذا وجهين في الإصلاح بين المسلمين يجتمع مع كل طائفةٍ ويذكرها والطائفة الأخرى بخير ويقول لكل طائفةٍ من الخير ما يقول للأخرى حيث لم يجد سبيلًا لإصلاح قلوبهم سوى ذلك فهذا لا يُذمّ، وإنما المراد في الحديث من يأتي هؤلاء وهؤلاء بالباطل يُزيِّن عند كل طائفةٍ عملها ويُقبِّحه عند الأخرى، وإنما كان ذو الوجهين من شر الناس لأن حاله تشبه حال المنافقين إذ هو مُتملِّقٌ بالكذب يُدخلُ الفساد بين فئات الناس ويسعى من حيث يدري أو لا يدري بالفتنة بين طوائف متضادةٍ فإنه إذا كانت طائفتان كل طائفةٍ منهما تُجانب الأخرى فلا يتمكَّن هذا المتملِّق من الاطلاع على أسرارهم إلا بما ذُكر من خِداعهم بوجهين، ومن كان ذا وجهين لا يكون وجيهًا، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينًا” رواه البخاري في “الأدب المفرد” أي فلا يكون ذو الوجهين أمينًا وهذا يقتضي التنبُّه لأمثال هؤلاء في المجتمع كي لا ينخدع بهم أحدٌ، فكم نرى اليوم من أناسٍ ذوي وجهين لا سيما في هذه المواسم فترى الواحد منهم يأتي هؤلاء بوجهٍ يوهمهم أنه معينٌ لهم وناصحٌ وأنه يجهَد في مراعاة مصلحتهم وهو سلمٌ لمن سالمهم حربٌ لمن حاربهم ويأتي عدوَّهم بمثل ذلك يحمله على هذا الوصول إلى مآرب رخيصةٍ أو ضعف النفس فلا يجرؤ على مواجهة كل قومٍ بالحق يخشى غضبهم عليه ولو أنصف هؤلاء من أنفسهم لأعرضوا عن المداهنة والتزموا الصدق فإن الحق أحق أن يتَّبع، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا عمر لصدقه وجرأته في الحق من غير مواربةٍ ولا مداهنةٍ فعن عليٍ عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مرًا تركه الحق وما له من صديق” رواه الترمذي.
هذا ومن أخطر المخاطر زيادةً على ما مرَّ أن صرنا نشهد من يأتي الناس بوجهين في أمور الدين والعقيدة بغية إصلاح دنياه أو دنيا غيره وهذا غايةٌ في السَّفه والوقاحة، فعن الإمام مالكٍ قال: قال لي أستاذي ربيعة الرأي يا مالك من السَّفِلة؟ قلت: من أكل بدينه فقال: من سفِلةُ السَّفِلة؟ قلت: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه قال فصدَّقني (قال له صدقت)” رواه القزويني في مختصره على شُعب الإيمان للبيهقي. ومعنى أكل بدينه: أهمل التمسُّك بالدين كما ينبغي لنيلِ حظٍ من حظوظ الدنيا. فكم من مشايخ يأتون أهل التنزيه الذين ينزِّهون الله عن مشابهة المخلوقين ويعتقدون أن الله تعالى لا يحويه مكانٌ ولا يجري عليه زمانٌ وأنه خلق العرش إظهارًا لقدرته ولم يتَّخذه مكانًا لذاته وهذا بلا ريبٍ هو المعتقد الحق فيوافقونهم ويثنون على منهجهم ثم يأتون مثلًا أهل التجسيم الذين يعتقدون أن الله تعالى جسمٌ له أعضاءٌ يتحيَّز في السماء ويستقر فوق العرش وهذا ضلالٌ مبينٌ وفيه موافقةٌ لليهود لا للمؤمنين فيوافقونهم ويثنون عليهم وعلى منهجهم يرجون حظًا دنيويًا من هؤلاء وحظًّا من أولئك فأي عارٍ ورَّط فيه هؤلاء أنفسهم لنيل دنيا قال الله تعالى فيها:{وما الحياة الدنيا إلا متاعُ الغُرور} سورة الحديد. فإن قيل كيف الجمع بين الحديث الذي فيه ذم ذي الوجهين وبين حديث أم المؤمنين عائشة الذي فيه أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة فلما جلس تطَلَّق (أظهر البشاشة) النبي صلى الله عليه في وجهه وانبسط (تبسَّم) إليه فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيتَ الرجلَ قلت كذا وكذا ثم تطلَّقت وانبسطت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة متى عهدْتِني فاحشًا إن شرَّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شرِّه” رواه البخاري.
فالجواب أنه لا منافاة بين الحديثين فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُثن على هذا الرجل في وجهه ولا قال له كلامًا منافيًا لما قاله في حقِّه حال غيبته إنما تألَّفه بشىءٍ من الدنيا مع لين الكلام له وقد كان هذا الرجل يُظهر الإسلام ولم يكن أسلم قلبه فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليُعرف هذا الرجل ولا يُغترَّ به وتألَّفه رجاء أن يؤمن حقيقةً
وقد كان معروفًا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتألَّف بعض الناس على الإسلام إما لكونهم ينافقون فيظهرون الإسلام ويُبطنون الكفر وإما لضعف قلوبهم يرجو أن يحسُن حالهم وفي “طرح التثريب” للحافظ العراقي أن هذا الرجل أظهر الردة مع المرتدين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وجيء به أسيرًا إلى الخليفة أبي بكرٍ إبَّان حروب الردة. وقوله: إن شر الناس عند الله منزلةً الخ في الحديث المتقدِّم معناه: من شرِّ الناس فإذا عُلم هذا فالحذر الحذر من المداهنة والتملُّق بالباطل والحمد لله أولًا وآخرًا.

شارك الخبر
AdvertisementAdvertisement

إقرأ أيضاً

التغيير والتنوير

بدلا عن محاكمة المفكرين وسجنهم بتهمة إزدراء الدين ،وعدم محاكمة مسئولي الأزهر الذين تسببوا بفقههم...

والأبناء يضرسون / 2/

لم يكن يوم أمس يوماً عاديًّا بالنسبة لأمير (الاسم مستعار) ابن العشرين عاماً حيث كان مزدحماً بعدد من...

أرجوكم إقرأوا كتاب "صحيح البخاري "لتكتشفوا حرفه للقرآن الكريم !

فالله ربنا سبحانه يقول في القرآن الذي بين ايدينا: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ} [سورة...

عن النبي شعيب

بمناسبة زيارة وفد من رجال دين مسلمين على المذهب الدرزي مقام النبي شعيب في فلسطين المحتلة تنشر...

الفرق بين القرآن والسنة

ضابط سابق في الجيش المصري كان متخصصاً بالجماعات الاسلامية محام بالنقض القاهرة ، جمهورية مصر...

دفاع عن نبي الله

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى قال الله تعالى:{وأيوب إذ نادى ربه أني مسنيَ الضُّر وأنت...