
نشرت الروائية الأيرلندية، ماري هنغرفورد، روايتها “ماري بون” عام 1878، من دون أن يدور بخلدها أن مقولتها فيها “الجمال بعين ناظره” ستغدو مثلاً سائراً تتناقله الشعوب، على أنه لو قُيّض لها أن تعيش الحدث السوري لأضافتِ الفهم إلى الجمال، ففهم غالب السوريين اليوم لتصريحات إدارة الرئيس دونالد ترامب عن سورية هو غالباً تبعاً لرغباتهم، في مجافاةٍ مقصودة لقاعدة “لا اجتهاد مع النصّ”، خصوصاً عندما يكون بلغة إنكليزية واضحة وصريحة لا تحتمل كثيراً من تنميقات المعاني والبيان والبديع، التي تُميّز لسان الضاد، فالأميركيون غالباً يقولون ما يعنون، ويعنون ما يقولون، إلا أن هذا لا يمنع أن تحمل التصريحات والقرارات الواضحة الصادرة من واشنطن رسائلَ سياسيةً تحتمل في تفسيرها بعض الاجتهاد، وهنا يمكن القياس بمقولة هنغرفورد، فكما “الجمال بعين ناظره”، يكون غالباً فهم أغلب السوريين تصريحات واشنطن برغباتهم، وربّما بأمنياتهم، وأحياناً كثيرةً بمخيّلاتهم.
لا يدّعي كاتب هذه السطور مقدرةً فذّةً على قراءة الرئيس ترامب، أو توقّع ما يدور في ذهنه، فتلك مهمّة مستحيلة، حتى لأغلب من عملوا معه من قرب، ولعلّ الوصف الأكثر دقّةً له بإجماعهم أنه عصيٌّ على القراءة (very unpredictable)، وهو إن كان قد حافظ في سلوكه العام على بعض الخطوط الثابتة، التي طبعت سيرته رجلَ أعمال جريئاً ومقاولاً عنيداً لا يقبل كلمة “لا” جواباً، فإنّ هذا سيظهر في سلوكه رئيساً، سواء مع سياسيّي بلاده أو زعماء العالم، لا يُستثنى منهم الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، ولا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ورغم الانطباعات المتضاربة التي خلَّفها وصفه الإيجابي والدافئ لعلاقته بأردوغان في حضرة نتنياهو، عقب لقائه معه في البيت الأبيض قبل أكثر من أسبوع، يعلم من يعرف واشنطن جيّداً أن لا عشاءَ مجّانياً فيها، وإن وُجد، فقطعاً ليس عند الرئيس ترامب، فإطراءات الرجل (على ندرتها) لم تكن يوماً بلا مقابل، وتستدعي تساؤلاً مستحقّاً عمّا وراءها، وإذا كانت قد أتت في معرض الإشادة بإنجاز الرئيس أردوغان بسورية (بحسب كلام ترامب) فسيكون منطقياً جدّاً النظر فيها تحديداً لمحاولة استنباط ما قد يريده ترامب هناك، ويعوّل على علاقته القوية بأردوغان لتحقيقه، أمّا أن يكون هذا الاستعراض الحميمي لعلاقة الرجلَين بوجود نتنياهو خصوصاً، فإن ذلك سيحصر مهمّة التخمين ليكون ضمن القضايا التي تهم الأطراف الثلاثة معاً في سورية، التي قد يكون في مقدّمتها نيّات تركيا المُعلَنة في إنشاء قواعدَ عسكريةٍ لها في سورية، والموقف الإسرائيلي المُعلَن أيضاً، والرافض للأمر طبعاً، وكما العادة بحجّة “تعريض أمن إسرائيل للخطر”، ما يُحتّم أن آخر ما يتمنّى نتنياهو سماعه وصف ترامب الجالس على بعد خطوتَين منه في المكتب البيضاوي، وأمام الصحافيين لإنجاز أردوغان في سورية: “عليك التسليم بانتصاره، إذا كان لدى إسرائيل مشكلة مع تركيا فأنا قادر على حلّها”.
التفسير المبدئي لكلام ترامب قد يوحي بانحياز واضح إلى موقف الرئيس أردوغان، وما ينوي فعله في سورية التي أقرَّ الأوّل للثاني بانتصاره فيها، على حساب علاقته بنتنياهو الرافض للأمر شكلاً ومضموناً، ولا يخفى ذلك، ولكنّ قراءةً أكثر عمقاً للأمر تأخذ في حسابها طبيعة العلاقة بين واشنطن وتلّ أبيب، من جهة، وواشنطن وأنقرة من الجهة الأخرى، قد ترى أن انحياز ترامب الظاهري إلى موقف أردوغان في سورية هو “… بابٌ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَلِه العذابُ” (سورة الحديد: 13)، وأنه ربّما يحمل في طيَّاته مشروعاً في سورية يؤلم أردوغان ويُرضي نتنياهو لأبعد الحدود، وهل من أمر يهمّ نتنياهو أكثر من إخراجه من ورطته في غزّة التي لم يستطع انتصاره العسكري الماحق فيها تحقيق أيّ هدف سياسي حتى الآن، لا بل إغلاق ملفّها مرةً وإلى الأبد بتهجير أهلها منها؟ الأمر الذي تقوم عليه مخطّطات الرئيس ترامب، التي لا يخفيها لإعادة رسم المنطقة. ولكن، إلى أين، وقد أبدت كلٌّ من مصر والأردن تحفّظاتها الشديدة على الأمر؟ وهل يغامر الرئيس ترامب باستقرار بلدَين حليفَين وبمنتهى الأهمية له ولنتنياهو؟ أم أن هناك بلداً آخر رُشّح لهذا الترانسفير المخيف؟ وهل يكون سورية؟ وهل يكون تشديد الحصار الاقتصادي عليها، رغم سقوط أسبابه بسقوط نظام بشّار الأسد، هو جزء من مخطّط تهجير ما أمكن من فلسطينيّي غزّة إليها؟ وأن قبول سلطة الأمر الواقع فيها دولياً وأممياً ودعمها اقتصادياً سيكون من أثمان هذا القبول؟
ربّما يحمل انحياز ترامب الظاهري إلى موقف أردوغان في سورية مشروعاً يؤلم أردوغان ويُرضي نتنياهو
قد يبدو الأمر جذّاباً ومفيداً لرئيس الفترة الانتقالية، أحمد الشرع، خصوصاً بعدما صارت الإشارة إليه تكتفي بوصفه بـ”الرئيس السوري” في تجاهل متعمّد (شعبي ورسمي) لكلّ ما يمتّ إلى الفترة الانتقالية بصلة، وفي الوقت الذي قد يرى فيه الفلسطينيون فيما خطّطه ترامب لمستقبلهم “قسمةً ضيزى”. إلا أن الشرع ومن حوله قد يرون أن الأمر لايخرج عن “الضوابط الشرعية”، فالرسول العربي وأتباعه هُجّروا من مكّة إلى المدينة، وكانت هذه الهجرة فاتحةَ خير لهم وللدولة التي أرسوها فيما بعد، وإذا كانت سورية عانت منذ 2011 نزيفاً مريعاً بتهجير طاول المكوّن السُّني فيها تحديداً، فإن تعويضه بمهجّري غزّة السُنَّه لن يكون أمراً سيئاً بالضرورة، ومن هنا فهل كانت زيارة الشرع للإمارات تصبّ في هذا الاتجاه، على حساب علاقته بأنقرة والدوحة اللتين قد يكون لهما موقف مختلف تماماً من الموضوع برمَّته؟
كما فعلت هنغرفورد تفعل درعا المستعصية على الدخول في بيت طاعة الشرع، وتذكّرنا بمثل حوراني يصف الحال بين حسابات السرايا وحسابات القرايا، وما يسري على أبناء حوران يسري على أبناء الجولان (والشرع منهم)، وقد يجد نفسه في موقف يحتاج فيه إلى موازنةٍ دقيقةٍ بين التماهي مع ما تحمله رؤية الرئيس ترامب إلى المنطقة وما يعتقد أنه سيجنيه منها، وموقف “صديق ترامب”، الرئيس أردوغان، من هذه الرؤية، بل فرص نجاحها بالأصل في ظلّ موقف شعبي فلسطيني متمسّك بأرضه بمنتهى العناد.