
غمرت مدينة حلب موجة من العنف فالقنابل تدوي في أرجائها مستهدفة مراكز المندوبية الفرنسية والقيادة والشرطة وغيرها ، حملات الإعتقال أخذت مقياسا واسعا وشملت حتى الأطفال ، كنا 27 واحدا حشروا في زنزانة طولها أربعة أمتار وعرضها متر ونصف وليس لها إلا نافذة واحدة بعرض 20 سم ، وجهت الى تهمة قيادة عصابة وإلقاء قنبلة على مركز الشرطة بالمجيدية في حلب ثم إطلاق النار على الضابط الفرنسي .
حاول قاضي التحقيق جاهدا إثبات التهمة ونقلنا الى السجن المدني وبعد منتصف ليل برده قارص فتح السجان أقفال باب غرفتنا طالبا الى إحضار أمتعتي ومرافقته فاستغرب الإخوان ونقلت الى القيادة المركزية للشرطة الفرنسية وهناك فوجئت بطلب إحضار كفيل لإطلاق سراحي بكفالة .
على أن أمثل في الصباح أمام قاضي التحقيق هو نفسه الذي حاول جاهدا إثبات الإتهام الموجه الي منذ أيام ، يتلو اليوم على سكرتيره نص إفادة سأوقعها وشعرت معها أن هناك قرارا بمنع محاكمتي وهكذا كان .
غادرت مقر قاضي التحقيق الى عملي في إدارة الحصر ودخل علي فاضل أسود صاحب جريدة البريد السوري الناطقة بالفرنسية وهو يهنئني وإذ أجبته بأن السجن أبسط ما يلاقيه الشباب المناضل قال لي : ليس السجن موضوع تهنئتي ، قلت : إذا على ماذا ؟ قال : إنما أهنئك على والدتك العظيمة .. والدتي ؟ نعم .. وأين عرفتها ؟ عند المندوب السامي .
أوالدتي عند المندوب ؟! إنها لم تخبرني وكيف كان ذلك ؟
قال : كنت عند المندوب السامي المسيو دافيد ، دخل سكرتيره يعلن أن والدتك تطلب مقابلته ويرافقها فوزي وفائي .. سمح لها المندوب بذلك ورحبنا بها عرّفتها بأني أحد أصدقائك ، سُرّت لذلك وطلبت الي أن أترجم ما ستقول ، وابتدأت الحديث قائلة : أرجو سعادة المندوب إعلامي فيما إذا كان ترجمانك الرسمي سيترجم جميع ما سأقوله نصا وروحا بدون أي تحوير .
في هذه الحالة فليترجم وإلا فقد أحضرت معي من يترجم بدون رتوش .. وهنا أكد المندوب أمانة الترجمة ، فابتدأت أمك بالحديث : أرجو يا سعادة المندوب أن لا يتبادر الى تفكيركم بأني قد جئت ألتمسكم بقضية إبني أحمد ، إنما جئت لأستوضح منكم قضية صعُب علي تفسيرها وهي الجواب على سؤالي ، لماذا أوقف إبني أحمد ؟ .
بأسلوب كله لباقة أجاب المندوب بأن أحمد هو موظف في الريجي يستغل جميع إمكانيات وظيفته ليقاوم فرنسا ، وقد تحول مكتبه في الريجي الى مركز للعمل الهدام في كيان الدولة والإنتداب ، فشكرَته ومباشرة طرحت عليه السؤال التالي مشيرة الى السيد وفائي قائلة : إن السيد وفائي قضى أكثر من عشر سنوات بالدرس في فرنسا .
وقد وصف لي حضارة فرنسا وظروف المعتقلات الخاصة بالمجرمين السياسيين ، فآخذته بأنه مبالغ جدا بحديثه ، فجاء معي ليستشهد بسعادة المندوب على صحة ما نقل ، أكد المندوب لها صحة رواية وفائي فشكرته وبحركة هادئة رصينة رفعت أمك يديها الى السماء شاكرة الله على أنه لم يُضع تربيتها لإبنها واتجهت للمندوب قائلة : سيادة المندوب إن ما دفع بي للمجيء إليكم وإزعاجكم هو ما بلغني من حشر ولدي وإخوته السياسيين الوطنيين في زنزانة مظلمة وهو عمل غير إنساني ، ومع عناصر جمعت من موائد الخمر والميسر وقارعة الطريق ، فالتبس علي الأمر وقلت في نفسي : ترى هل صرعه شيطان فأغواه حيث ألقي القبض عليه مع حثالة المجرمين ؟ .
وإذ أكدتم لي بأنه كرس جهده وطاقته للعمل في سبيل بلاده ومثله الأعلى ، صليت الى ربي شاكرة على أنه حفظ لي تربيتي التي أنشأت ولدي ليعمل في سبيل بلاده ، أما سؤالي عن معتقلات فرنسا فهو أني استغربت أن يحشر سياسيون وطنيون نبلاء مع عناصر الإجرام وقلت لعل هذه أساليب فرنسا .
جئت أستوضح صحة حديثه معكم ولما أيدتم سعادة المندوب ما نقله عن معتقلات فرنسا قلت الآن لنفسي : حتما إن سعادة المندوب لم يذق المعتقل السياسي كمناضل يعمل في سبيل مجد بلاده ، ونهضت شاكرة لتنصرف فأشار عليها المندوب بالجلوس قائلا : يا سيدتي سأطلق سراح ابنك فورا ، قالت لوحده ؟ .
أم مع إخوانه ؟ فإن كان منفردا فأنا أعتبر ذلك إهانة تلصق به ، أرجوك ياسعادة المندوب لا تفعلها فإن كنت ستعيد الحرية اليهم جميعا فأكون لك ولحرية فرنسا من الشاكرين ، سألها المندوب قائلا : سيدتي هل بين السوريات مثلك كثيرات ؟ وبتواضع حر قالت : يا سعادة المندوب … إنني إمرأة أمية وأنا أبسط السوريات ولا شك في أن بين المتعلمات من هن أحسن حالا مني كثيرا .
كان ذلك موضع دهشته ، وبعد أن ودعها منصرفة عاد ليلطم على رأسه قائلا : اي صفعة أتلقاها في سوريا وعلى يد إمرأة وأنا مرغم مع تأنيب على إطلاق سراح ولدها ورفاقه بدون شكر .