
لأجل ديمومة الحياة يحتاج الكائن الحي الى غذاء لتوليد الطاقة واستمرارية حياته ، ولم يكن أمام الخلية الأولى القليلة الحيلة التي تسبح في الماء طعام تأكله سوى حساء المستنقعات الذي تسبح فيه ، ولم تكن لديها وسيلة لتوليد الطاقة سوى تخمير هذا الحساء وتحويله الى مواد كحولية بسيطة تنطلق نتيجتها طاقة تافهة تستخدمها في حياتها البدائية .
مرت ملايين السنين والخلية البدائية للحياة تأكل من هذا المصدر المحدود وشيئاً فشيئاً بدأ المورد ينضب … وظهر في الأفق شبح مجاعة بدأ يقترب … وبدأت الحياة تهلك ، وبدأ الموت يحصد أعداداً هائلة من الخلايا كل يوم ، وكان لا بد من وسيلة أخرى للتغذية وتوليد الطاقة وإشعال فرن الحياة غير هذا التخمير البدائي ، ولا بد أنه كانت هناك تجارب مستميتة على مدى الملايين من السنين .. تجارب كل خلية لاكتشاف شيء جديد للبقاء .
وكما بدأ الإنسان بحرق الخشب ثم اكتشف الفحم ثم اكتشف البترول ثم اكتشف الكهرباء ثم اكتشف الذرة ، كذلك كانت الميكروبات تجرب وهي في سباق مع الموت بحثاً عن وسيلة كيميائية أخرى غير التخمير لتعيش ، ولا شك أنه أمر مضحك أن تتصور ميكروباً يجرب ويحاول الاختراع والاكتشاف ولعل التصور الأكثر معقولية أن الله الذي خلق هذه الخلايا البدائية كان يهديها وكان يأخذ بيدها في هذه المسيرة الأغرب من الخيال وبالتدبير أو بالهدي الإلهي استطاع ميكروب عبقري أن يصنع مادة اسمها الكلوروفيل .
والكلوروفيل مادة عبقرية بالفعل ، يكفي أن يمسها شعاع الشمس فينطلق منها تيار من الكهرباء ، والسر في ذلك أنها ذات تركيب خاص وفني جداً ، فالذرات فيها متصلة ببعضها بطريقة تجعل الكتروناتها مجمعة في شكل سحابة مفككة وحرة نوعاً ما ، تكفي دفعة طفيفة من شعاع الشمس فتتدفق على شكل تيار متلاحق ، وبالتالي سوف تطلع الشمس على الميكروب كما تطلع كل يوم منذ ملايين السنين ، ولكن هذه المرة سوف يحدث شيء جديد ، فالميكروب قد صنع لنفسه مئات من كرات الكلوروفيل الخضراء وسوف تقتنص هذه الكرات الخضراء ضوء الشمس وتحوله الى طاقة كهربائية وسوف تقوم الطاقة الكهربائية بكل شيء ..
فتحلل الماء الى أوكسيجين وهيدروجين ، فتطلق الأوكسجين في الهواء وتثبت الهيدروجين مع ثاني أوكسيد الكربون وما أكثره في الجو لتصنع السكر والنشا فتتغذى منه النباتات ، وهذا الاكتشاف الذي اسمه التمثيل الكلوروفيلي بدأ فيه عصر جديد في الحياة اسمه عصر النباتات الخضراء وهي نباتات تتغذى على ضوء الشمس وتخزن هذا الضوء في حبات ، ولكي نعلم الى أي مدى كان هذا الاكتشاف رهيباً يكفي أن نعرف أن الإحصاءات قدرت كمية الطاقة التي يخزنها النبات سنوياً بهذه الطريقة ( بعشرة مليون مليون مليون ) جرام كالوري ، أي بما قيمته مائة مليون قنبلة ذرية .
إن هذا الاكتشاف حدث قبل مجيء الإنسان الى الأرض وقد اكتشفته الخلايا النباتية في مخاطراتها اليومية في البحث عن غذاء .. وكان ذلك بهدي خالقها ، ولم يكن هو الاكتشاف الوحيد ، فما لبث أن ظهر اكتشاف آخر أعطى الحياة للإنسان ، فقد التقط الإنسان من الخلية الأوكسيجين المتخلف عن عملية التمثيل الكلوروفيلي واكتشف أنه يمكن أن يحرق به السكر … وهذا هو ما نفعله الآن وما تفعله كل الحيوانات في عملية التنفس ، فنأخذ الأوكسيجين من الجو وهو ما تخلفه لنا النباتات ونحرق به السكر في أجسامنا لنحصل على طاقة أعظم تساعدنا على الحركة والقفز والسباحة .
والقصة ما زالت مستمرة وموصولة في حلقات ، فنحن لم نكتف بهذه الحرارة التي نستمدها من التنفس وإنما بدأنا نبحث بطرائقنا الخاصة عن مصادر أخرى للطاقة فحرقنا الخشب ثم الفحم ثم البترول ثم أطلقنا البخار وولدنا الكهرباء …. وفجرنا الذرة والبقية في الطريق …. وكان الفضل الأول في كل ذلك لخلية نباتية عبقرية اكتشفت ذات يوم منذ ملايين السنين قنبلة الكلوروفيل وكان ذلك بهديٍ إلهي .
وعلينا أن نتذكر دائماً أن ننظر الى الأشجار في احترام ، فهي التي تمدنا بالأوكسجين الذي نتنفس به كل يوم ، وحينما نقرأ عن عجائب عالم النبات ، وكيف أنه بين أنواع النبات نباتات مفترسة تأكل الحيوان قبل أن يأكلها ونباتات طفيلية .. ونباتات ذات بذور مجنحة تطير كالباراشوت ، ونباتات تشعر باللمس .. فعلينا أن لا نعجب فقد عرفنا ما هو أعجب من ذلك جميعاً ..
عرفنا نبات مخترع اخترع قنبلته الذرية التي هي الكلوروفيل .