
كما يقف القاضي العادل في وجه الظلم، دون أن يرفع صوته، بل يرفع من قيمة الإنسان، كذلك كان البابا فرنسيس. لم يكن بحاجة إلى العنف أو التهديد أو سطوة السياسة ليصنع الأثر؛ كان حضوره كافيًا، وكلماته تُشبه المرافعة الأخيرة في محكمة ضمير العالم، حيث لا مكان إلا للحق.
كان قداسة البابا فرنسيس رمزًا للعدالة الهادئة والرحمة الحازمة. رجلٌ تخطّى الحدود الدينيّة والثقافيّة، وجعل من الكرامة الإنسانيّة قضيته الأولى. كرّس حياته للدفاع عن المظلومين، عن الفقراء، عن اللاجئين، عن كلّ من لا صوت له، وكان في مقدّمة من ناصروا الشعب الفلسطيني، لا بشعارات، بل بمواقف نزيهة تُعبّر عن إنسانيّة عميقة وإيمانٍ بعدالة قضيّتهم. لم يتوانَ عن وصف معاناة الفلسطينيّين بما تستحق من تسميتها الحقيقية: ظلم تاريخيّ يتطلّب حلاً عادلًا وشجاعًا.
وحين اشتعلت الحروب، كان صوته هادئًا لكنّه مدوٍّ، يذكّر العالم بأنّ لا سلام يُبنى على دم الأبرياء، ولا انتصار يُشرّف قائماً على أنقاض الطفولة والكرامة. دعا إلى السلام لا كمجرّد شعار، بل كمسار قانونيّ وأخلاقيّ يجب أن تسلكه الشعوب والدول. في عالمٍ تُبرَّر فيه الحروب بالمصالح، ظلّ هو على موقفه: لا شيء يبرّر القتل، لا شيء يسمو فوق الإنسان.
لم يكن البابا فرنسيس مجرد قائد دينيّ، بل كان تجسيدًا نادرًا للعدل حين يُلامس الرحمة. كان صوته صوت المستضعفين، وكان حضوره عزاءً للشعوب المنسية، وعلى رأسها فلسطين، التي لطالما نادى بعدالة قضيّتها وحقّ أبنائها في حياة كريمة. في زمن كثر فيه ضجيج الحرب، حمل هو صمت الصلاة، وفي زمن كثرت فيه النصوص، حمل هو جوهر القانون: إنصاف الإنسان. وداعًا يا رسول السلام… فقد كنت تشريعًا للمحبّة في عالم قاسٍ.
أنا محامٍ، لكنني اليوم أنعى رجلًا علّمني أن العدالة لا تحقق غايتها إن خلت من الرحمة. البابا فرنسيس، ذاك الرجل الذي لم يخشَ أن يضع يده على الجراح المفتوحة للعالم، بكى أطفال غزة، وخصّ لبنان في محنته بمواقف وأقوال مؤثرة دعا فيها الى إنقاذ هذا الوطن من الانهيار مردداً ما قاله سلفه: “لبنان ليس مجرّد بلد، بل هو رسالة”. من يستطيع قول ذلك إلّا رجل جعل من القانون حبًّا، ومن السياسة صلاة؟ إننا نودّع رمزًا عالميًا بكى من أجل الحقّ حين صمت الجميع.
في كلّ ساحة حرب، وفي كل مخيم لاجئين، وفي كلّ سجن نُسيت فيه الكرامة… كان هناك صوت البابا فرنسيس. صوتٌ لا يصدر من منبر عالٍ بل من وجدان متّصل بالإنسان. لم يكن البابا مجرّد قائد، بل طبيب ضمّد بكلماته جراح العالم، من فلسطين إلى ميانمار، ومن سوريا إلى أحياء الفقراء في الغرب. واليوم، ونحن نفتقده، ندرك كم كان حضوره دواءً لا يُعوَّض
لقد رحل رجل الدولة الذي لم يحكم شعبًا، بل ضمّه بقلبه. البابا فرنسيس، صاحب المواقف الصلبة والابتسامة الواثقة، جعل من الكرامة حقًا لا يُساوَم عليه، وجعل من فلسطين قضيّة ضمير، ومن الحوار بين الأديان سبيلًا للسلام. كان، بالنسبة لنا كرجال قانون، النموذج الأسمى لما تعنيه العدالة حين تكون محمولة على أكتاف الأخلاق.
في زمن خفتت فيه الأصوات الأخلاقية، كان البابا فرنسيس ضميرًا حيًّا يذكّرنا بأن الإنسان فوق السياسة، وأن الحقّ لا يُقاس بالمصالح. دعوته للسلام في فلسطين، ورفضه للحروب التي تُشنّ باسم الرب أو الطمع، لم تكن مجرد مواقف، بل كانت نبضًا عالميًا يوقظ فينا ما تبقى من إنسانية. اليوم نفتقدك كقائد، ونرثيك كقيمةٍ حيّة رحلت بالجسد، وبقيت في الضمير.
البابا فرنسيس كان من القلائل الذين فهموا أن العدالة هي وجه المحبّة حين تصير نظامًا. في دفاعه عن اللاجئين، وفي بكائه على أطفال فلسطين، وفي ندائه لإنهاء كل حرب، تجلّى القانون الأسمى: كرامة الإنسان. هذه شهادتي كرجل قانون: لقد كان البابا هو المحامي الأول عن المقهورين.
كم من قاضٍ عرف القانون وطبّقه، لكن من منّا عاشه كما عاشه البابا فرنسيس؟ لم يكن يُصدر أحكامًا، بل يطلق نداءات. لم يكن يدين، بل يحتضن. وكأنه قاضٍ بوحي نبيّ، يعرف أن العدل لا يكون إلا إذا سبقه الفهم، وأن الحكم لا يكون عادلاً إلا إذا سُمع صوت المتهم والضحية معًا. لقد نادى بحق الفلسطيني أن يعيش، وبحق اللاجئ أن يُحتَضن، وبحق البشرية أن تحيا بلا كراهية.
العدل الذي حلم به البابا لم يكن قائمًا على السيف أو الغلبة، بل على الإنصاف والتراحم. قالها صراحة: فلسطين تستحق العدالة، والمهاجر لا يستحق الغرق، والفقير لا يستحق النسيان. لم يكن البابا خطيبًا في السياسة، بل رجلًا في الحقّ. وها نحن نودّع رجلًا لم يسكت يومًا عن كلمة الحق، فكان وداعه وجعًا، ولكن أثره باقٍ في ضمير كل من عرف معنى الحقّ يومًا.
لقد علّمنا البابا فرنسيس أن العدالة لا تنفصل عن الرحمة، وأنّ القانون بلا ضمير يصبح أداة قمع، وأنّ الدفاع عن الحق ليس امتيازًا للمحامين فحسب، بل واجب على كل إنسان حرّ.
في زمن خفتت فيه الأصوات الأخلاقية، كان البابا فرنسيس ضميرًا حيًّا يذكّرنا بأن الإنسان فوق السياسة، وأن الحقّ لا يُقاس بالمصالح. لم يكن رجل دين فحسب، بل ضميرًا ناطقًا في عالم أنهكته الحسابات والحدود، وقلوب أُنهكتها الحروب.
من أبرز إنجازاته التاريخية، توقيعه مع شيخ الأزهر على وثيقة الأخوّة الإنسانيّة في أبوظبي، تلك اللحظة النادرة التي تلاقت فيها السماء على صوتٍ واحد يدعو للسلام. كانت هذه الوثيقة دليلًا حيًّا على أنّ الحوار الصادق يمكنه أن يشقّ طريق النور وسط عتمة الكراهية، وأنّ كلمة الحقّ حين تصدر من قلبين مؤمنين، قادرة على أن تُعيد تعريف الممكن. لقد آمن البابا فرنسيس بأنّ السلام يبدأ بكلمة، وتلك الكلمة دوّنها مع أخيه في الإيمان والإنسانية، فكانا صوتين من دينين، لكن من قلبٍ واحد.
لقد رفعت هذه الوثيقة للعالم رسالة عنوانها: “الاختلاف لا يفسد المحبّة”، وعبّرت عن رؤية تجاوزت الطوائف، لتخاطب الإنسان بصفته إنسانًا.
رحيله ليس مجرّد غياب شخصية روحية كبرى، بل خسارة للبشرية جمعاء، وللإنسانية صوت خسرناه حين كنا بأمسّ الحاجة إليه.
ورحل كما يرحل القاضي النزيه، بعد أن نطق بالحكم الأخير في قضايا الضمير: لا للحرب، نعم للسلام. لا للظلم، نعم للعدالة. لا للصمت، نعم لفلسطين.
وكما يبدأ المرافِع مرافعته بحقيقة واضحة وينهيها بنداء صادق للعدالة، بدأ البابا فرنسيس حياته بالكلمة الطيبة، وختمها بالفعل النبيل، ليترك فينا مثالاً لا يُنسى، وقضيّة نُكملها: أن نكون صوتًا للعدل، كما كان هو صوتًا للبشريّة جمعاء.
الأمين العام لإتحاد المحامين العرب(سابقا)