
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى
قال الله تعالى:{يآ أيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون} سورة الحشر.
وعن عبد الله بن عبَّاسٍ قال: “كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: يا غلام إني أعلمك كلماتٍ احفظ الله يحفظك احفظ الله تجدْهُ تُجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىء لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك رُفعت الأقلام وجفَّت الصُحف” رواه الترمذي.
وصيةٌ عظيمةٌ لقَّنها النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه سيدنا عبد الله بن عبَّاس، وصيةٌ جامعةٌ للخير والبر من عمل بها ترقَّى في مراتب الفضل ومن أعرض عنها كان في الحضيض وما أحوجنا كل حينٍ إلى التمسُّك بهدي معلِّم الناس الخير سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الكلام على حلِّ ألفاظ الحديث نقول:
قوله صلى الله عليه وسلم:”إني أعلمك كلمات” جمع قلة إشارةٌ إلى قلة مبانيها رغم جَزالة معانيها فيسهل حفظها ويتيسر ضبطها وفائدة هذا التمهيد أن يتنبه المخَاطَب لفهم ما يُلقى إليه وأن يتمكن في نفسه فضلُ ما يُخاطَبُ به ومعنى “احفظ الله يحفَظْك” احفظ أوامر الله تعالى وأحكامه بامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وهو من باب حذف المضاف فإنك إن فعلت ذلك حفظك الله من المكاره في الدنيا والمشقَّات في العُقبى، أي احفظ الله فلا يراك حيث نهاك تُحفَظُ في دينك ودنياك، وقوله “تجدْه تُجاهك” أي تجد عنايته ورأفته قريبًا منك في حال الصحة وعند الشدائد وحال الموت، وهو من باب مجاز حذف المضاف كقوله تعالى:{وأسأل القرية التي كنَّا فيها} سورة يوسف. أي أهل القرية. بل قد يحفظ الله تعالى العبد بعد موته في ذريته فقد جاء في “جامع البيان” للطبري وغيره في تفسير قوله تعالى في سورة الكهف:{وأما الجدارُ فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما وكان أبوهما صالحًا فأراد ربك أن يبلُغآ أشُدهما ويستخرجا كنزهُما رحمةً من ربك} الآية قال: “حُفظا بصلاح أبيهما”
توجيهٌ وجيه
وقوله صلى الله عليه وسلم “إذا سألت فاسأل الله” معناه إذا أردت أن تسأل فاسأل الله تعالى، أي فالأفضل والأولى لك أن تسأل الله فإنه هو المعطي المانع الضارُّ النافع فسؤاله خيرٌ لك من سؤال من لا يملك إلا ما ملَّكه إيَّاه مولاه ولا يقدر إلا على ما أقدرَهُ عليه خالقه، ولذلك فإن الأحسن أن يقول الداعي إذا أراد التوسل مثلًا: اللهم اغفر لي بجاه فلان (من الصَّالحين) لأنه طلبٌ من الله تعالى بدل أن يقول يا فلان مدد
قلت: وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تُصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي” رواه أبو داود عن أبي سعيدٍ الخُدري.
وليس معناه أنه لا يجوز لك إطعام غير التقي أو مصاحبة غير المؤمن الكامل، فقد قال تعالى:{ويطعمون الطعام على حُبِّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرا} سورة الإنسان. قال الخازن في “لُباب التأويل” “وأسيرا، قيل: هو المسجون من أهل القبلة يعني من المسلمين وقيل هو الأسير من أهل الشرك” ثم قال: “فعلى هذا الوجه يجوز إطعام الأسرى وإن كانوا على غير ديننا”
فيكون قوله صلى الله عليه وسلم “ولا يأكل طعامك إلا تقي” حثٌ على الأولى ومثله قوله “إذا سألت فاسأل الله” أي الأولى. ومن ذلك قوله أيضًا: “وإذا استعنت فاستعن بالله” يحثُ النبي صلى الله عليه وسلم على الأولى في كل ذلك ولا يعني هذا أن مجرد الاستعانة بالناس حرامٌ أو شركٌ وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على جواز التوسل بالأنبياء والصَّالحين.
سل الله حاجتك
وإذا ما عُلم هذا تبين أن مُراد النبي صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى الأجدر والأمثل وذلك بالتوكل على الله، وأن لا يتعلَّق العبد بغيره في جميع أموره ما قلَّ منها وما كثر فقد قال تعالى في سورة الطلاق: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}
وعن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “لِيسأل أحدُكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع” رواه ابن حِبَّان.
فالله تعالى يحب أن يُسأل ويُرغب إليه في الحوائج كلها فعن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع نفرًا على خِصالٍ فمن ذلك قال: “ولا تسألوا الناس شيئا” قال عوف: فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يسأل أحدًا أن يُناوله إيَّاه” رواه أبو داود.
فمن جعل اعتماده على الله في كل شىء كان على خيرٍ عظيم، فإن الأمة أي سائر الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوا أحدًا بشىءٍ أو اجتمعوا على أن يضرّوا أحدًا بشىءٍ لا ينفعونه إلا بشىء قد كتبه الله له ولا يضرونه إلا بشىء قد كتبه الله عليه كما بيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الله تعالى هو الفعَّال لما يريد فلا دافع لما قضى ولا رادّ لما أعطى قال تعالى:{وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخيرٍ فلا رآدَّ لفضله يُصيب به من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم} سورة يونس.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث “رفعت الأقلام” أي عن الصحف “وجفت الصحف” أي جفَّت الكتابة التي في صحف الملائكة وفُرغ منها على وَفق ما قدر الله تعالى، أي فلا تغيير لإرادة الله وتقديره، وقال بعض العلماء: المراد القلم الأعلى واللوح المحفوظ، والجمع للتعظيم وذلك أن الله تعالى خلق القلم الأعلى واللوح المحفوظ وأمر الله القلم فجرى على اللوح بكل ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة قال تعالى:{مآ أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير} سورة الحديد. والحمد لله أولًا وآخرًا