
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسُوله والمؤمنون وستُردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} سورة التوبة.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” رواه الترمذي.
روى الخطيب البغدادي وغيره عن أبي داود (صاحب كتاب السُنن) قال:”كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديثٍ انتخبت منها ما ضمَّنته هذا الكتاب (كتاب السنن) جَمعتُ فيه أربعة ءالاف حديثٍ وثمانمائة حديثٍ ذكرت الصحيح وما يُشبهه ويُقاربه ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات والثاني قوله صلى الله عليه وسلم: من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه والثالث قوله صلى الله عليه وسلم: لا يكون المرء مؤمنًا (أي لا يكمل إيمانه ولا يُراد نفي أصل الإيمان) حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه والرابع قوله صلى الله عليه وسلم: إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن وبينهما مُشتَبهات، الحديث”. فمن فقه هذه الأحاديث وعمل بمقتضى ما أرشدت إليه نال المراتب الرفيعة وترقَّى في الدرجات العالية وكان له بذلك حظٌ عظيمٌ من العلم فما أحوجنا إلى العمل حقيقةً بمضمون ما دلَّت عليه لا سيما وقد صرنا إلى زمنٍ غريبٍ حيث نرى كثيرًا من الناس قد شغلوا أنفسهم بالترهات وسفاسف الأمور ودخلوا فيما لا خير فيه من القول أو الفعل فضلُّوا وأضلُّوا من حيث لا يدرون، أو صرفوا كل وقتهم للدنيا وحوَّلوا جلَّ اهتمامهم أو كله إلى الانكباب عليها وجمع حطامها الزائل فتشاغلوا بما لا يُهم عن المهم إذ قصَّروا في الواجبات الدينية فتركوا ما يجب عليهم وانصرفوا إلى ما لا يعنيهم فضاعت أوقاتهم وذهبت أعمارهم سدىً فيا خسارة الأوقات والساعات، وتراهم مرةً بعد مرةٍ يُقحمون أنفسهم فيما لا شأن لهم فيه فيكونون عبئًا على غيرهم وثِقلًا على الآخرين فإذا بهم يعصون الله تعالى ويُفسدون فسادًا كبيرًا من حيث ظنوا الإصلاح، وربنا تعالى يقول في سورة البقرة:{وإذا قيل لهم لا تُفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مُصلحون ألآ إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} وإزاء ذلك فالعاقل من وطَّد نفسه على العمل بمقتضى الحديث الشريف أعلاه، ومعنى يعنيه تتعلق عنايته به ويكون من مقصوده ومطلوبه وهو مأخوذٌ من العَنَا بمعنى شدة الاهتمام يقال: عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه فالعاقل من ترك ما لا يُعتنى به بحكم الإيمان والإسلام مما لا شأن له ولا يعود على صاحبه بخيرٍ ولا نفعٍ
وقد ذكر الإمام مالكٌ في الموطأ أنه بلغه أنه قيل للقمان عليه السلام “ما بلغ بك ما نرى (أي من الفضل) فقال: “صدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني” والذي يعني الإنسان من الأمور ما يتعلق بضرورة حياته في معاشه والنظر في شؤون من يعُولهم فيتحرَّى الطرق المشروعة لكسب الرزق والاهتمام لأداء الواجبات الدينية على الوجه الذي تصح به وتكون مقبولةً عند الله تعالى مع الحرص الشديد على طلب العلم ليميِّز بين ما يصح وما لا يصح وما يحلُّ وما يحرم وأن يكون آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر يبذُل النصح لإخوانه مجتهدًا فيما يعود عليه بالأجر العظيم كالتفكُّر في مخلوقات الله ليقوى يقينه والدعاء والذكر وطول الصمت إلا من خير ليسلم له أمر دينه ودنياه.
والذي لا يعنيه هو ما لو إذا تكلم به أو فعله لم يُثب ولم يأثم وبالأولى إن كان مثل هذا لا يعنيه أن يُعرض عما في قوله أو فعله إثم صيانةً لجوارحه من عذاب الله فمن دخل فيما لا يعنيه وتتبَّع ذلك ضيَّع زمانه وربما انجر بعد ذلك إلى أن يشغل نفسه في الحرام المحض فيكون قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وقد روى أبو نُعيمٍ في “حلية الأولياء” “أن داود بن نُصيرٍ الطائي (أحد أكابر الصوفية الصَّالحين) كان يجلس في حلقة الإمام أبي حنيفة فيسمعُهم يتكلمون في المسئلة وهو يُجيد التكلُّم فيها ويشتهي ذلك شهوة العطشان إلى الماء فلا يفعل إذ كان في كلام غيره ما يُغني عن كلامه” علمًا أن كلامهم كان في أحكام الدين وأمور الآخرة وإنما أراد كسر شهوة نفسه وحملها على الإخلاص والتواضع وترك ما لا يحتاج إليه ليكون عاملًا بحقٍ بقول الله تعالى في سورة المؤمنون:{قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون} قال النسفي في “تفسيره” “اللغو كل كلام ساقطٍ حقه أن يُلغى كالكذب والشتم والهزل يعني أن لهم من الجد ما شغلهم عن الهزل ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه بالوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقَّين على الأنفس”
قلت: وكذلك كل كلام أو فعلٍ لا يعني المرء فينبغي أن يُلغى وإن شقَّ ذلك على النفس فينبغي للعاقل أن يكسر نفسه لتعتاد الفضائل فلقد قيل: “محاربة النفس شفائها” فلا تدخل فيما لا يعنيك وإن دعتك إليه النفس الأمَّارة بالسوء حتى لا يكون ذلك وبالًا عليك فمن اقتصر على ما يعنيه سَلِم وقلَّ أصلًا من يقوم بما يعنيه مما لزم عليه من الأحكام فلماذا يتعدى البعض إلى ما لا يعنيه وقد روى ابن حِبَّان من حديث أبي ذرٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن تكون له ساعاتٌ ساعةٌ يُناجي فيها ربه (يدعو الله ويسأله من فضله) وساعةٌ يُحاسب فيها نفسه وساعةٌ يتفكَّر فيها في صنع الله (تفكُّر اعتبار ليتَّعظ) وساعةٌ يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنًا (ساعيًا وطالبًا والظعن السير) إلا لثلاث تزودٍ لمعادٍ أو مَرَمَّةٍ لمعاشٍ (ما يحتاجه من متاع البيت) أو لذةٍ في غير محرَّم وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلًا على شأنه حافظًا للسانه ومن حَسَبَ كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه”
والحمد لله أولًا وآخرًا