
في حضرة القامات الوطنية، تغدو الكلمات شهادات حقّ، والتكريم يصبح فعل وفاء لذاكرة الوطن. اليوم، لا نكرّم شخصًا بقدر ما نحتفي بقيمة، لا نلتفت إلى ماضٍ بقدر ما نستمدّ منه إلهامًا للمستقبل. “تكريم الكلمة الحرة… إدمون رزق شاهدًا وصانعًا في تاريخ لبنان”، هو أكثر من احتفال، إنه وقفة مع رجل جعل من الموقف مبدأ، ومن الكلمة منبرًا للسيادة، ومن العدالة مرجعية في زمن عزّ فيه الإنصاف.
من ضمير الوطن إلى ذاكرته الحية: تحية إلى “إدمون رزق”، الذي لم يكن مجرّد فاعل في الشأن العام، بل ضميرًا حيًا واكب اللحظة اللبنانية بكل تعقيداتها، وترك فيها أثرًا من صدق وقوة ووضوح. هو الرجل الذي صاغ الدستور بقلمه، ونادى بالعدالة بصوته، فاستحقّ أن نقول عنه: “إدمون رزق… قلمٌ صاغ الدستور وصوتٌ نادى بالعدالة”.
فهو من أولئك الرجال الذين لا تصنعهم المناصب، بل تصنعهم المواقف، رجالٌ تسكن فيهم القيم قبل أن يسكنوا في كراسي السلطة، ولهذا، نقولها من القلب: تحية إلى إدمون رزق.
وإذا كان لكل زمن رجاله، فإن زمن السيادة والوفاق كان له من يعبّر عنه بصدق وشجاعة، وكان للأستاذ إدمون رزق الحضور الأبرز فيه، قامة لا تتكرّر، وصوت لا يُنسى. تكريم الأستاذ “إدمون رزق”، هو تذكير لنا جميعًا بأن في لبنان رموزًا لم تساوم، وأن في تاريخنا صفحات مضيئة كتبها الكبار بحبر الموقف، لا بمداد المصلحة.
في زمنٍ تتقاذفه التحديات السياسية والضغوط الاجتماعية، تبرز لحظات نادرة تستحق الوقوف عندها ملياً، لأنها تعيد إلينا شيئاً من الثبات الوطني، ومن الوفاء للمبادئ التي قامت عليها الدولة اللبنانية. وإن تكريم الأستاذ إدمون رزق، في رحاب جامعة الروح القدس – الكسليك، هو من هذه اللحظات التي تتخطى بعدها الشخصي لتلامس وجدان الوطن، وتسلّط الضوء على قيمة الرجال الذين صاغوا الكلمة مواقف، وجعلوا من القلم سلاحاً للدفاع عن السيادة، والدستور، وكرامة الإنسان.
إنّي أرى في هذا التكريم أكثر من مجرد احتفاء بشخصية عامة. إنه تكريم للفكر الدستوري، والالتزام الوطني، والممارسة القانونية الرصينة التي تجسدت في مسيرة الأستاذ “إدمون رزق”، المحامي والمناضل، النائب عن جزين، والوزير الذي أعطى للتربية بعدها الإنساني، والمشرّع الذي ساهم في إنضاج وثيقة الطائف، بصفته أحد أبرز الوجوه القانونية والسياسية في ذلك المفصل التاريخي من تاريخ لبنان. لقد كان رزق صوت العقل في زمن الانقسام، ورسول الوفاق في مرحلة الصراع، ومدافعاً شرساً عن الكلمة الحرة وعن الدولة المدنية القائمة على الحق والعدالة. وإذ تبرّع اليوم بأرشيفه الغني إلى جامعة الروح القدس – الكسليك، فإنه لا ينقل فقط مستندات وكتابات، بل يسهم في بناء ذاكرة وطنية حيّة، تتيح للباحثين والطلاب والمهتمين الإطلاع على فكر رجل كان شاهداً وصانعاً في آن.
إن أرشيف الأستاذ إدمون رزق، الذي يحتوي على وثائق نادرة، ومراسلات، وخطابات، ومواقف موثقة، يمثّل مرآةً للواقع اللبناني بتعقيداته وتشعباته، وهو يُعدّ مرجعاً هاماً لفهم تطوّر الحياة السياسية والدستورية في لبنان. ومن هنا، فإن جامعة الكسليك، باحتضانها لهذا الإرث، تؤكد مجدداً دورها كمؤسسة أكاديمية رائدة في حفظ الذاكرة الوطنية، وفي بناء جسور بين الماضي والحاضر.
تكريم الأستاذ رزق اليوم، في هذه الجامعة التي تحمل في عمق رسالتها روح الانفتاح والهوية الثقافية الجامعة، هو أيضاً دعوة إلى جميع اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، إلى العودة إلى الثوابت التي لطالما دافع عنها: دولة القانون، احترام الدستور، سيادة المؤسسات، وتكريس العدالة كركيزة لأي نظام ديمقراطي. وبما انني أنتمي إلى المهنة التي شكّلت أحد أعمدة مسيرة الأستاذ “إدمون رزق”، أرى في هذا التكريم محطةً ملهمة لكل من اختار طريق الدفاع عن الحق، ورفع راية القانون في وجه الفوضى والظلم. فمسيرته الحافلة تُذكّرنا أن المحاماة ليست مجرد مهنة، بل رسالة قائمة على الالتزام الأخلاقي، وعلى الموقف الوطني، وعلى الجرأة في قول الحقيقة. إن ما يجمع بين القانون والسياسة والتاريخ هو رجال من طينة رزق، ممن آمنوا بأن العدالة ليست حكراً على قاعات المحاكم، بل يجب أن تكون ثقافة عامة، وحياة يومية، ومبدأ يُبنى عليه الوطن.
إن تكريم أمثال الأستاذ إدمون رزق لا يُعدّ مجرد التفاتة رمزية نحو الماضي، بل هو فعل إيمان بالمستقبل، واستثمار في القيم التي يجب أن تظل حيّة في ضمير الوطن. ففي زمن التحديات الوجودية والانقسامات المتكررة، تبرز أهمية استعادة سيرة رجالٍ قدّموا المثال الحيّ على أن العمل العام يمكن أن يكون مساحة للشرف، وأن النضال الوطني لا يُقاس بالضجيج بل بالفعل الهادئ والعميق.
وإنّ تكريم قامة فكرية وقانونية ووطنية كالأستاذ رزق، هو دعوة إلى الجيل الجديد لكي ينهل من هذا الإرث، ويتعلّم أن بناء الدولة لا يتمّ بالصراعات الفارغة، بل بالإيمان العميق بقدسية المؤسسات، وبأن الكلمة الصادقة والموقف المسؤول قد يغيّران مجرى التاريخ. لذا، ونحن نحيّي هذا التكريم المستحقّ، نأمل أن يشكّل مناسبة لإعادة الاعتبار للقيم التي لطالما ميّزت لبنان الحقيقي: التنوّع الخلاّق، الحرية المسؤولة، الحوار البنّاء، وسيادة القانون فوق كل اعتبار. فكما قال أحد الكبار: “إن الأوطان لا تبنى بالوعود، بل بالتجارب التي تصمد أمام المحن، وبالرجال الذين لا يبدّلون مواقفهم عند أول عاصفة.”
وإضافةً إلى كل هذه الجوانب المشرّفة، لا بدّ من الإشارة إلى البعد النقابي والفكري للأستاذ إدمون رزق. فقد كان من أوائل المحامين الذين ظلّت أصواتهم مسموعة في انتخابات نقابة المحامين في بيروت، حيث كان دائمًا في صفّ القيم القانونية والمهنية، مؤمنًا أن نقابة المحامين هي قلعة للعدالة، لا مجرد موقع وظيفي. كان يدافع عن استقلالية المحاماة، ويؤمن بأن دور المحامي لا يقتصر على القضاء، بل يمتد ليكون صوت الشعب وحاملاً لقيم الحقّ. وقد كان دائمًا الداعم الأول لي في الانتخابات النقابية، مما يعكس إيمانه العميق بأهمية دعم الجيل الجديد من المحامين، وحرصه المستمر على تأصيل قيم العدالة والمهنية في العمل النقابي.
أما في ما يخص العروبة، فقد كانت بالنسبة له لا مجرد انتماء سياسي، بل هوية ثقافية وحضارية، تنبثق من فهم عميق للواقع اللبناني والعربي. إنهُ يؤمن بأن لبنان يجب أن يكون في قلب العروبة، مع الحفاظ على هويته المتنوعة، مُنفتحًا على كل الثقافات والأديان. وفي علاقته التاريخية مع القامات الوطنية اللبنانية مثل الرئيس تقي الدين الصلح، نرى تجسيدًا لهذه المبادئ. كانت العلاقة بينهما قائمة على الاحترام المتبادل، حيث كان كلاهما يؤمن بالدور الفاعل للدولة اللبنانية في الساحة العربية، ويعملان معًا لتحقيق التوازن بين السيادة اللبنانية والتعاون العربي المثمر.
“في زمنٍ تتكاثر فيه الأزمات، يبقى تكريم القامات هو تذكير بأن لبنان لا يزال يملك رموزه النقية، وأن الأمل لا يموت حين نستحضر تاريخاً صنعه الكبار.”
*الامين العام لإتحاد المحامين العرب(سابقاً)