
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرَحوا هو خيرٌ مما يجمعون} سورة يونس.
وعن أنسٍ قال: “قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما بالجاهلية فقال: قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية وقد أبدلكم الله خيرًا منهما يوم النحر ويوم الفطر” رواه البيهقي.
إن من عظيم فضل الله تعالى ورحمته بهذه الأمة أن أبدلهم عن يومي اللهو واللعب اللذين كانا في الجاهلية المظلمة بيومي الذكر والشكر لرب العالمين وجعلهما ربنا من شعائر الدين فيستبشر فيهما المؤمنون ويُظهرون المسرَّة فيما بينهم فرحين بما منَّ الله تعالى به عليهم من خيراتٍ وبركاتٍ راجين ربهم عزَّ وجل أن يوفقهم لما يحبه ويرضاه، وقد أوضحت الآية الكريمة أن الفرح الحقيقي هو الفرح بفضل الله ورحمته وفضل الله الإسلام العظيم ورحمته القرآن الكريم فليفرحوا بما منَّ الله تعالى به عليهم من ذلك الفضل الكبير فذلك خيرٌ مما يجمع غير المؤمنين من حطام الدنيا، فإن متاع الدنيا إلى زوالٍ وثواب الله تعالى في الآخرة باقٍ. ويحرّك العيدُ المجيد في النفوس الصادقة الهمةَ والعزمَ على الاستمرار في عمل الخير والمعروف والطاعة والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان ابتغاء مرضاة من له ملكوت السموات والأرض تبارك وتعالى، ولسان الحال قبل لسان المقال يردد: “الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلًا، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده وهزم الأحزاب وحده”.
ومهما عصفت المحن وادلهمت الخُطوب وتغيَّرت الأحوال وتبدَّل الزمان يبقى العيد السعيد مظهرًا من مظاهر الفرح عند المؤمنين ونرى في هذا اليوم المبارك بارقة أملٍ لغدٍ مشرقٍ إن شاء الله، فإنه مهما حشد الليل الظلام فلا بد أن يُعسعس أمام طلائع الفجر، وكم نحن بحاجةٍ إلى العيد لنرى مظاهر الأُلفة والمودة تتألق من جديدٍ وليتذكَّر الغافل أهله وأرحامه فيصلهم ويواسيهم بعد انقطاع ٍطويلٍ بنفسه وبماله أو بكلمة طيبةٍ تُبلسم جراحهم وتُكفكف أحزانهم، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”إنكم لا تسَعُون الناس بأموالكم ولكن لِيَسَعُهُم منكم بسطُ الوجه وحُسن الخُلق” رواه الحاكم. وقد قيل:
لا خيلَ عندك تُهديها ولا مالُ فليُسعفِ النطق إن لم تُسعفِ الحال
فلتتسامى قُلوبنا في العيد بالصفح عمن أساء إلينا وبالسعي لمصالحة من جفانا ولنتجمَّل بمكارم الأخلاق اقتداءً بسيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي قال ربه فيه:{لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ} سورة الأحزاب. ومدحه بالخُلق العظيم فقال:{وإنك لعلى خُلقٍ عظيمٍ} سورة القلم. فإن ذلك من المفاهيم والمثُل العليا التي نحتاج أن تتجدد في مجتمعنا مرةً بعد مرةٍ ليرتفع بها الصدأ الذي لطالما أحاط بعلاقات الناس بعضهم مع بعض، فما أحوجنا أن نعمل على إصلاح ذواتنا فإن صلاح المجتمع يبدأ بصلاح الفرد. وليس معنى العيد أن نتجمَّل بلبس الثياب الجديدة فحسب، ولا أن نهتم لشراء آخر ما توصلت إليه صناعة الأزياء الشرقية والغربية أو أن يكون أكبر مرادنا في هذا اليوم شد الرحال للرحلات الترفيهية بقصد الاستجمام والنزهة وغير ذلك من مغريات الحياة غير متنبهين لتلك المبادئ القيمة التي ينبغي أن نفهمها من العيد، فإن الفرحة العظمى أن تزيد طاعاتك وتكثر حسناتك وتتوب إلى ربك ليغفر لك سيئاتك، وإلا فما معنى أن يتجمَّل المرء باللباس ويُبالغ في التنعم بالتفنن في المأكل والمشرب وقد هجر أخاه المؤمن ولم يرتدع بحديث أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا يحل لرجلٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام” رواه البخاري. فما بال من قطع أرحامه الشهور والسنين؟ بل وكم من أناسٍ هجروا إخوانهم العمر وراحوا يذرفون دموع الندم عند موت أولئك الأقارب.
ونظرًا لأهمية العيد وما يُمثله في الزمان فإننا ندعو في هذه الأيام المباركة إلى تلاقي القلوب قبل القوالب فإنه إذا التقت القلوب صفا الود ولم يؤثر بعد ذلك بعدُ المسافات واختلافُ البلاد والأوطان، أما إذا نفرت القلوب وغرقت في الفساد فلا خير في اجتماعها على ذلك بل إن لقاء أصحاب مثل هذه القلوب لا ينتج عنه في العادة إلا مزيد الشر وبالتالي: فإنه ليس المراد من اللقاء في العيد مجرد اجتماع الأبدان وإذا ما قام عائقٌ أمام الكثيرين يمنع من التلاقي فلا ينبغي أن يكون هذا العائق مانعًا من غسل القلوب من الأحقاد والضغينة. ولنتذكر أن روابط الأخوة في الدين أقوى من روابط الأنساب وما تجمعه رابطة الإيمان أقوى مما تجمعه رابطة القرابة والمصاهرة، وإذا ما كنا على قلب رجل واحدٍ كنا أقرب لبعضنا البعض وإن بعدت ديارنا، أما إذا كانت قلوبنا شتى فنحن أبعد ما نكون عن بعضٍ ولو كنا في غرفة واحدة، وربنا تعالى يقول: {إنما المؤمنون إخوة} سورة الحجُرات. وإن من أبرز مظاهر القوة وأسباب الأُلفة والتضامن التي تنهض بها المجتمعات المؤمنة التآخي في الله تعالى، وليست هذه الأخوة مجرد شعارٍ نرفعه دون تطبيقٍ لما يتضمَّنه هذا الشعار من معاني السمو والعظمة.
أن نكون إخوةً في الله يعني أن يحب أحدنا لأخيه من الخير ما يُحب لنفسه فعن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه” متفقٌ عليه. معناه لا يكون كامل الإيمان حتى يكون على هذه الصِّفة وليس المراد نفي أصل الإيمان والإسلام عنه بالمرة. وما أحوجنا في هذا الزمن العصيب أن نطبِّق معنى الأخوة في الله بكل معنى الكلمة إذ قد صرنا إلى أيامٍ تُبتلى فيها معادن الرجال، وقلَّ من الناس من يهتم لشؤون إخوانه أو ربما لشؤون أهله وما زال أكثرهم يُفتنون بالدنيا وينسون الاستعانة بما رزقهم الله من النعمِ على أمر الآخرة وتضيعُ منهم مواسم الخير فيما لا خير فيه. والحمد لله أولًا وآخرًا.