الجمعة، 6 يونيو 2025
بيروت
26°C
سماء صافية
AdvertisementAdvertisement

ملاحظات على التسجيلات.. ناصر 1967

أثارت التسجيلات التي جرت إذاعتها عن محضر مباحثات جمال عبد الناصر ومعمر القذافي، يوم 3 آب/أغسطس 1970 في قصر القبة، عاصفة من التعقيبات والتحليلات. ويلاحظ بدايةً أن كثيرًا من التعقيبات والتحليلات على تلك التسجيلات فسر ما قاله الرجل تفسيرًا يتناسب مع توجهاته، وحمّلها فوق ما تحتمل، أو أخرجها من سياقها التاريخي، ودونما أدنى مراعاة لهذا السياق، ولا حتى لنص الكلمات الصريحة القاطعة في معانيها. لقد عمد البعض إلى تلخيص كل مسيرة جمال عبد الناصر في هذه التسجيلات بالاستغراق في الهوى، متناسيًا كل ما هو منشور ومعروف من الحقائق الموضوعية بشأن توجهاته وسياساته… وحقائق عهده وعصره. وكأن الرجل بلا “منظومة قيم ومعتقدات” راسخة وظاهرة، وكأن زمن التسجيلات نفسها لم يشهد حدثين على جانب كبير من الأهمية والخطورة: أولهما، معلوم؛ حيث بلغت “حرب الاستنزاف” الضروس، وتكاليفها الباهظة، ذروة هائلة، دفعت إسرائيل والولايات المتحدة إلى طلب وقف إطلاق النار، من خلال “مبادرة روجرز”، التي تضمنت لأول مرة الموافقة على مبدأ الانسحاب التام من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، والتي كان الدافع الخفيّ لموافقة جمال عبد الناصر عليها هو دفع حائط الصواريخ إلى جبهة قناة السويس، بوصفه آخر خطوات الاستعداد لحرب التحرير، كما تأكد في حرب عام 1973؛ وثانيهما، كان من أغلى الأسرار في حينه، لكنه أصبح معلومًا ومنشورًا على أوسع نطاق، ويتمثل بأن جمال عبد الناصر قد صدّق على “أمر القتال”، لتبدأ “حرب التحرير” في الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1970… لكن القدر كانت له حسابات أخرى!

ولا شك في أن أسوأ قراءة ممكنة لأية وثيقة أن تتوه الحقائق في التفاصيل، أو أن تركز على نصوص بعينها، وتستبعد أخرى لمقتضيات وأسباب لا علاقة لها بأي بحث جدي عن الحقيقة. الاجتزاء خطيئة سياسية وتاريخية متكاملة الأركان. بل إن اجتزاء الحقيقة كخيانتها.

لقد تحدث جمال عبد الناصر كرجل دولة مسؤول له حساباته الموضوعية، يعرف حقائق توازن القوى في الإقليم والعالم، ويتصرف وفقًا لذلك، فقال في الحديث إن التوازن العسكري ليس في مصلحة العرب، لأن الولايات المتحدة تعطي السلاح إلى إسرائيل، وكل أشكال الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي بلا حدود، بينما هناك قيود على التسليح السوفياتي لمصر، وأنه يعرف ماذا يفعل.

كان جمال عبد الناصر في هذا الوقت يتحرك في اتجاهين: الأول، هو استكمال بناء القوات المسلحة، وبناء حائط الصواريخ الذي أوقف عربدة الطائرات الإسرائيلية في السماء المصرية – من ناحية، وحماية عملية العبور القادمة – من ناحية أخرى، نزولًا على يقينه “إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”. وبناءً على ذلك أعد الفريق أول محمد فوزي خطة عسكرية للعبور صدق عليها جمال عبد الناصر للتنفيذ في عام 1970؛ والثاني، – سياسي ودبلوماسي لاستنفاد محاولات الحل السلمي، الذي لم يكن يرفضه من حيث المبدأ، ولكن بشرط أن يعيد الحقوق كاملة، ودونما اعتراف ولا تطبيع مع كيان الاحتلال، فضلًا عن كسب بعض الوقت مع الولايات المُتحدة حتى تستكمل القوات المسلحة استعداداتها. فقد أشار جمال عبد الناصر مرارًا إلى أن الهدف هو تحرير الأرض، فإذا كان من الممكن تحقيق ذلك بالوسائل السلمية فلا يوجد ما يمنع ذلك، قائلًا في التسجيلات، وهو رجل عسكري يعرف مخاطر الحرب وأهوالها: “لو فيه فرصة لإزالة العدوان من مناطق 67 ليه أسيبها؟” وقد أشار في التسجيلات على سبيل المثال إلى أن عدد قوات الجيش المصري يربو على نصف المليون، وهذا معناه أن كل أُسرة مصرية لديها شاب في الجيش وهو حريص عليهم، مع العلم أن هذا العدد قد ارتفع إلى مليون مقاتل صبيحة يوم حرب 1973. وإن كان قد عبَّر في الحديث نفسه عن إدراكه أن الحل السلمي بعيد المنال. وفي التسجيلات أشار إلى “أن 99.5 بالمئة الحرب حتمية”!

يفهم جمال عبد الناصر هدف الحملات المُعادية له ولمصر، في الوقت الذي كانت فيه مصر هي الدولة الوحيدة التي تخوض حربًا ضروسًا ضد القوات الإسرائيلية. وأكد أنه لن يخضع للابتزاز مُذكرًا بالحملات المماثلة التي وُجهت ضده بعد توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954. كان حديثُ جمال عبد الناصر يمتلئ بالمرارة والغضب من سلوك بعض الحكومات العربية، وبالسخرية من ادعاءاتهم ومُزايداتهم السياسية.

إن معالجة مضمون هذه التسجيلات، وعاصفة التعقيبات والتحليلات التي رافقت إذاعتها، تقتضي عرض أربعة عناصر متكاملة: أولها، “عقيدة جمال عبد الناصر القومية”؛ وثانيها، حل الصراع العربي الإسرائيلي، وبخاصة بعد نكسة عام 1967 في إدراك جمال عبد الناصر؛ وثالثها، قبول “مبادرة روجرز” عام 1970؛ ورابعها، التصديق على “أمر القتال”.

أولًا: عقيدة جمال عبد الناصر القومية

كيف تبلورت “عقيدة” جمال عبد الناصر تجاه فلسطين، التي تكاملت لتصبح عقيدة قومية. هنا تنبغي العودة إلى كتابه فلسفة الثورة، الذي صدر عام 1954، وبخاصة الجزء الثالث منه، الذي خصصه للحديث عن “المكان”، بعد أن خصص الجزأين الأول والثاني للحديث عن “الزمان”. ويمثل الكتاب مجرد أفكار رجل في مقتبل العمر، لم يكن قد مر على “حركته” سوى عامين… ولم يكن قد أصبح بعد جمال عبد الناصر.

في حديثه عن المكان، وربما قلنا “عبقرية المكان” هذا المفهوم الذي وضع أصوله العلمية لاحقًا العلامة جمال حمدان؛ تساءل جمال عبد الناصر: “أيمكن أن نهمل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وأن هذه الدائرة منا ونحن منها، امتزج تاريخنا بتاريخها، وارتبطت مصالحنا بمصالحها، حقيقة وفعلًا لا مجرد كلام؟”

وحيث أشار إلى “الدوائر الثلاث المشهورة – العربية والأفريقية والإسلامية – فقد قال: “وما من شك في أن الدائرة العربية هي من أهم هذه الدوائر، وأوثقها ارتباطًا بنا. فلقد امتزجت معنا بالتاريخ، وعانينا معها المحن نفسها، وعشنا الأزمات نفسها، وحين وقعنا تحت سنابك خيل الغزاة كانوا معنا تحت السنابك نفسها.

وامتزجت هذه الدوائر معنا أيضًا بالدين؛ فتنقلت مراكز الإشعاع الديني في حدود عواصمها من مكة إلى الكوفة، ثم إلى القاهرة. ثم جمعها الجوار في إطار ربطته كل هذه العوامل التاريخية والمادية والروحية.

ثم أشار بنفسه إلى “تاريخ” ومراحل تبلور هذه “العقيدة الفلسطينية العربية” في منظومة القيم والمعتقدات التي ترسخت في أعماقه؛ حيث أوضح كيف بدأت طلائع الوعي العربي تتسلل إلى تفكيره وهو طالب في المدرسة الثانوية، يخرج مع زملائه في إضراب عام في الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام، احتجاجًا على وعد بلفور الذي منحته بريطانيا لليهود، ومنحتهم به وطنًا قوميًا في فلسطين. وحين تساءل: لماذا كانت تنتابه تلك الحماسة؟ لم يكن يجد في نفسه سوى أصداء عاطفة. ثم بدأ نوع من الفهم يخالج تفكيره حول هذا الموضوع عندما أصبح طالبًا في الكلية الحربية يدرس تاريخ فلسطين والمنطقة العربية. ثم بدأ الفهم يتضح وتتكشف الأعمدة التي تتركز عليها قواعده عندما كان يدرس، وهو طالب في كلية أركان الحرب، حملة فلسطين، ومشكلات البحر الأبيض المتوسط بالتفصيل.

ومن ثم يخلص إلى أنه “لما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعًا في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالًا في أرض غريبة، وهو ليس انسياقًا وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتّمه الدفاع عن النفس”.

وهذا هو المعتقد نفسه الذي أشار إليه في “خطاب التنحّي” بعد النكسة عام 1967، حين قال: “إننا نعرف جميعًا كيف بدأت الأزمة في الشرق الأوسط في النصف الأول من أيار/مايو الماضي. كانت هناك خطة من العدو لغزو سورية. وكانت تصريحات ساسته وقادته العسكريين كلها تقول بذلك صراحة، وكانت الأدلة متوافرة على وجود التدبير.

ولقد وجدنا واجبًا علينا ألا نقبل ذلك ساكتين. وفضلًا عن أن ذلك واجب الأخوة العربية؛ فهو أيضًا واجب الأمن الوطني؛ فإن البادئ بسورية سوف يثنّي بمصر”.

ويتابغ في فلسفة الثورة منتقلًا من الخاص: “قد يحدث هذا لابنتي”، إلى العام: “وكنت مؤمنًا أن الذي يحدث لفلسطين كان يمكن أن يحدث – وما زال احتمال حدوثه قائمًا – لأي بلد في هذه المنطقة، ما دام مستسلمًا للعوامل والعناصر والقوى التي تحكمه الآن.

ولما انتهى الحصار وانتهت المعارك في فلسطين وعدت إلى الوطن؛ كانت المنطقة كلها في تصوري قد أصبحت كلًا واحدًا. وأيدت الحوادث التي جرت بعد ذلك هذا الاعتقاد في نفسي”.

أساس ذلك لديه “أن الاستعمار هو القوة الكبرى التي تفرض على المنطقة كلها حصارًا قاتلًا غير مرئي، أقوى وأقسى مئة مرة من الحصار الذي كان يحيط بخنادقنا في “الفالوجة”، وبجيوشنا جميعًا وبحكوماتنا

في العواصم التي كنا نتلقى منها الأوامر.

ولقد بدأت بعد أن استقرت كل هذه الحقائق في نفسي أؤمن بكفاح واحد مشترك وأقول لنفسي ما دامت المنطقة واحدة وأحوالها واحدة، ومشاكلها واحدة، ومستقبلها واحدًا، والعدو واحدًا مهما حاول أن يضع على وجهه من أقنعة مختلفة .. فلماذا تتشتت جهودنا؟

ثم زادتني تجربة ما بعد ثورة 23 يوليو إيمانًا بهذا الكفاح الواحد وضرورته. فلقد بدأت خبايا الصورة تتكشف والظلام الذي كان يحيط بتفاصيلها ينقشع”.

بهذا، تكاملت عقيدة جمال عبد الناصر القومية، التي تمثل الهوية والمرجعية، ومصدر الشرعية، ومن ثم تعَدّ جوهر نظرية الأمن القومي المصري. من هنا، أكد عبد الناصر “أن القتال في فلسطين ليس قتالًا في أرض غريبة”، وأنه يتجاوز كثيرًا “الأخوة العربية”، ويندرج في صميم الأمن القومي المصري… والتطورات والوقائع الجارية من حولنا تؤكد هذا الإدراك الوطني والقومي وتعززه.

ثانيًا: حل الصراع العربي – الإسرائيلي في إدراك جمال عبد الناصر

حين نتابع موضوع إدراك جمال عبد الناصر قضايا الحرب والسلام، ومن ثم إدراكه منهج حل الصراع العربي – الإسرائيلي، عبر مراحله المختلفة؛ فلا بد من الانطلاق من توصيفه الدقيق لطبيعة هذا الصراع حيث خلص إلى أنه “صراع وجود .. لا صراع حدود”، ومثل هذه الصراعات التاريخية، كحال الصراع بين الأديان، أو الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، لا يسهل تصور حسمها بالقوة العسكرية. ويمكن القول إن إدراك جمال عبد الناصر وسلوكه أخذا في التغير الجذري منذ “مذبحة غزة” في 28 شباط/فبراير عام 1955، عندما قامت القوات الإسرائيلية بغارة على مواقع الجيش المصري، ما أسفر عن ارتقاء 39 شهيدًا، و33 جريحًا.

وكانت التحضيرات جارية قبل هذه المذبحة لعقد “مؤتمر باندونغ”، وكانت إسرائيل ضمن الدول المدعوَّة لحضور المؤتمر، حيث أشار الرئيس الإندونيسي سوكارنو إلى أنه لا يمكنه عدم دعوتها لأنها دولة عضو في الأمم المتحدة، ومن بلدان العالم الثالث. فكان رد جمال عبد الناصر، يمكن توجيه الدعوة إلى إسرائيل إذا قبلت قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين، وبخاصة الالتزام بقرار التقسيم حسب القرار الرقم 181، وإقرار حق العودة حسب القرار الرقم 194، فضلًا عن إيقاف العدوان المتكرر على الدول العربية، وكما توقع رفضت إسرائيل.

في التوقيت نفسه، كانت هناك مراسلات بين جمال عبد الناصر وإيدن رئيس وزراء بريطانيا حول تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، فأكد جمال عبد الناصر أنه على الاستعداد نفسه للتسوية بالشروط السابقة نفسها. إن إسرائيل لم ترفض هذا الموقف المصري وحسب، بل ارتكبت تلك المذبحة على القوات المصرية المعسكرة في غزة. ومن وقتها أخذ جمال عبد الناصر يكرر أنه لا يمكن الثقة بإسرائيل.

عقب نكسة حزيران/يونيو 1967 أجرى جمال عبد الناصر تغييرات جذرية في صفوف القيادات العسكرية، وأصدر قرارًا بتعيين الفريق أول محمد فوزي قائدًا عامًا للقوات المسلحة، والفريق عبد المنعم رياض رئيسًا لأركان الحرب.

وقد عقد جمال عبد الناصر جلسة مع الفريق أول محمد فوزي في 11/6/1967 لتحديد متطلبات وأفق إزالة آثار العدوان. انتهت المناقشات إلى أن الحرب غير ممكنة قبل عام 1970، لكنها لا ينبغي أن تتجاوز عام 1971. كان تحفُّظ فوزي الوحيد أن الشعب المصري لن يتحمل طول هذه المدة، وبخاصة بعد أن تتضح حقائق النكسة وخسائرها الهائلة ماديًا ومعنويًا… فكان رد جمال عبد الناصر: إن هذه مهمتي.

كذلك فإن الشهيد الفريق عبد المنعم رياض حين كلفه جمال عبد الناصر بمنصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة؛ رجاه ألّا يوافق على حل سلمي، وأن يعطي القوات المسلحة شرف القتال لتحرير الأرض! فأكد جمال عبد الناصر المبدأ الذي أعلنه لاحقًا: إن ما أُخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد بغير القوة.

وكان “مؤتمر الخرطوم” علامة بارزة في مسار الصراع، حيث أقر “لاءات الخرطوم الأربعة”، لا “الثلاثة” كما هو شائع: “لا تفاوض ولا صلح ولا اعتراف بدولة إسرائيل… ولا تصرف بالقضية الفلسطينية”. وما تقرر في “مؤتمر الخرطوم” كان تحديدًا “إزالة آثار عدوان 1967″، من دون التطرق إلى حل القضية الفلسطينية. ومن ثم أشار جمال عبد الناصر في التسجيلات إلى “أن الأولوية الآن لتحرير الأراضي التي احتُلت عام 1967، ويأتي بعد ذلك الأراضي التي احتلت عام 1948”.

المهم في هذا السياق أن جمال عبد الناصر طلب من الملك حسين، في إحدى جلسات المؤتمر، أن يتوجه إلى الولايات المتحدة، وأن يعلن استعداده للاعتراف بإسرائيل إذا قررت إعادة الضفة الغربية والقدس للأردن، لأن الخطر الحقيقي يحدق بهما، لا بسيناء، وأنه على استعداد لتغطية موقف الملك حسين أمام الأمة العربية، لكن إسرائيل رفضت هذا العرض السخي الذي تبناه الملك! وقد ورد في التسجيلات موقف مماثل؛ عندما أشار القذافي إلى أن إسرائيل إذا وافقت على إعادة الضفة الغربية فسوف تشترط أن تكون منزوعة السلاح، فكان تعقيب جمال عبد الناصر أنه إذا كان في مكان الملك لقبل هذا العرض؛ لأن خطر التهويد داهم وجدّي.

ثم تأتي مرحلة صدور قرار مجلس الأمن الرقم 242، حيث دار حوار بين وزير خارجية مصر والمندوب الأمريكي أرثر جول برج بشأن ما ينبغي أن يتضمنه القرار؛ وبخاصة هل تسوية شاملة للصراع العربي – الإسرائيلي .. أم حرب 1967 فقط. وقد طالب رياض لاعتبارات مفهومة بالاقتصار على حرب 1967. ولذلك تضمن القرار فقرة تنص على “حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين” التي ترتبت فقط على تلك الحرب، لا التي ترتبت على حرب 1948 وما بعدها. لكن للأسف الشديد اعتمدت مدرسة أوسلو هذا البند على خلاف حقيقته، وعدَّته أساسًا لحل هذا الجانب من القضية الفلسطينية، عندما عدّت أن القرار الرقم 242 هو أساس التسوية!

تصاعدت المزايدات حينها على الساحة العربية، التي ذهبت إلى وصم جمال عبد الناصر بكل ما لا يخطر على بال، وكأن الرجل بلا تاريخ، أو كأنها تتحدث عن رجل آخر! وفي مواجهة هذه المزايدات قال جمال عبد الناصر لدى استقباله وفدًا من منظمة التحرير الفلسطينية: إننا سوف نحارب لتنفيذ هذا القرار! ومن هنا أخذ يكرر في خطبه: إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، ومن اللافت أن هذا الشعار وجد مطبوعًا فوق الجدار الذي استشهد تحته محمد الدرة، ولهذا سارعت إسرائيل إلى هدم هذا الجدار برمَّته.

في سياق الحاجة الماسة إلى بناء الجبهة الشرقة، وانطلاقًا من مبدأ قومية المعركة، أكد جمال عبد الناصر أنه يبذل كل جهد ممكن من أجل قيام الجبهة الشرقية، لكي تقوم بدورها في حرب التحرير، لكنه أكد بجلاء قاطع: أنه ليس معنى ذلك أن مصر تربط خوض المعركة بقيام هذه الجبهة، بل إن التخطيط المصري يقوم على أننا سنحارب منفردين إذا اقتضى الأمر، لأن احتلال التراب الوطني ليس محلًا لمثل هذه التعلّات.

المهم في هذا السياق استعادة الظروف التي دعت جمال عبد الناصر إلى توجيه الدعوة لمؤتمر قمة طارئ في 23/12/1963، وانعقاده بالفعل في الشهر التالي مباشرة عام 1964، وأصبح تقليدًا منذ ذلك الحين، حتى جرى اعتماد مبدأ دورية مؤتمرات القمة العربية عام 2000، واستحداث مستوى القمة رسميًا ضمن الهيكل التنظيمي لجامعة الدول العربية.

ذكر جمال عبد الناصر في سياق توضيح دواعي دعوته إلى انعقاد مؤتمر القمة العربي الطارئ؛ أنه كان يراجع محضر اجتماع “مجلس الدفاع العربي المشترك” الذي يضم وزراء الدفاع والخارجية العرب؛ فاكتشف أن الوفدين السوري والأردني قد أشارا في مداخلتيهما إلى أنه ليس لدولتيهما القدرة على الدفاع ضد أي عدوان إسرائيلي! وأشار جمال عبد الناصر إلى أن هذا الأمر كان مفاجأة كاملة له، لأن الحديث العربي العلني السائد يشير إلى تحرير فلسطين، وهي بالضرورة عملية ذات طابع هجومي عسكري يشترط توافر قدرات محددة، بينما نفتقد في الحقيقة القدرة على الدفاع. ومن هنا تضمنت قرارات المؤتمر أن الهدف طويل الأجل: هو تحرير فلسطين، وأن الهدف قصير الأجل هو: دعم القدرات الدفاعية العربية، والحؤول دون تحويل مجرى نهر الأردن.

من ناحية أخرى، وفي السياق نفسه، كان جمال عبد الناصر قد التقى وفدًا من القيادات الفلسطينية في المدة نفسها، وأعلن أمامه أنه ليس لديه خطة لتحرير فلسطين، وأنه في مثل هذه القضية ليس مستعدًا لخداع الشعوب العربية.

إن جمال عبد الناصر كان يدرك بيقين أن القضاء على إسرائيل هو معركة الأجل الطويل، وأنه لا بد أولًا من حل الصراع العربي – الغربي، بوصفه الصراع الأساسي، ومن ثم حل الصراع العربي – الإسرائيلي في غمار ذلك لكونه الصراع الثانوي، مع الاعتراف بخطورته لأنه يعمد إلى خلق الوقائع الاستعمارية الاستيطانية على الأرض الفلسطينية كل يوم. وكانت منظومة الصراع الأساسي التي يواجهها وتواجهه تتكون من: التخلف والتبعية والتجزئة وإسرائيل.

كان يقين جمال عبد الناصر الذي أعلنه في إحدى خطبه بالنص: إن القضاء على التخلف هو الخطوة الأولى للقضاء على إسرائيل. وفي المؤتمر التأسيسي لإنشاء “منظمة الوحدة الأفريقية” كانت هناك توجهات تتوجس من طرح القضية الفلسطينية على المؤتمر، بوصفها قضية غير أفريقية، نظرًا إلى التسلل الإسرائيلي والوجود الاستعماري في القارة في الدول الأفريقية قبل استقلالها. من هذا المنطلق أعلن جمال عبد الناصر أنه لن يطرح القضية الفلسطينية على المؤتمر، رغم يقينه بأن إسرائيل رأس جسر للاستعمار، وكما نعتتها بحق “مجموعة الدار البيضاء” المكونة من عدة دول أفريقية، واثقًا أنه حين تغرب شمس الاستعمار في المحيط فإن إسرائيل لن تهرب من المصير.

وللتوضيح والاستدلال، استعاد جمال عبد الناصر جانبًا من “خبرة الحياة الصعيدية”، التي يعرفها جيدًا بحكم النشأة والانتماء، يتمثل بـ”منهج إزالة حبة السنطة”؛ وهي نوع من البثور الجلدية التي كانت تعالج بربطها بإحكام بشعرة من ذيل الحصان، وهي بالغة القوة، بهدف قطع الشريان الدموي الذي يغذي حبة السنطة، وكل عدة أيام تجري المتابعة ويشدد إحكام الشعرة من جديد، حتى تسقط حبة السنطة من تلقاء ذاتها.

وكانت هناك المزايدات بشأن مرور إسرائيل من مضيق تيران، في تنازل قدَّمته مصر لانسحاب إسرائيل من سيناء بعد العدوان الثلاثي عام 1956، بخاصة من جانب السعودية والأردن ومجموعة النظم العربية الرجعية، بداعي “أن زعيم القومية العربية يسمح لإسرائيل بالمرور في المضيق، وأنه يحتمى بقوات الطوارئ الدولية”! ومن ثم؛ ومع تصاعد الأحداث منذ 15 أيار/مايو عام 1967، أعلن جمال عبد الناصر إغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية، قائلًا: وبذلك نكون قد تخلصنا من آخر آثار حرب 1956 – من ناحية، وبناءً على طلب مصر قرر مجلس الأمن سحب قوات الطوارئ الدولية بسيناء، قبل اندلاع القتال – من ناحية أخرى.

ثالثًا: قبول “مبادرة روجرز”

توجه جمال عبد الناصر، في خطابه في الاحتفال بعيد العمال أول أيار/مايو عام 1970، برسالة علنية إلى الرئيس الأميركي نيكسون قائلًا: إننا نطالبه بالضغط على إسرائيل للانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967 تطبيقًا للقرار الرقم 242، وإذا قال إن ذلك ليس في إمكانه، فنحن على استعداد لأن نصدقه، مهما كان رأينا بهذا الشأن .. لكننا نطالبه بأن يمتنع عن تزويد إسرائيل بالسلاح الذي يساعدها على الاستمرار في العدوان والاحتلال، وحتى توافق على الانسحاب. وقد أكد الرئيس الأمريكي في مذكراته أن خطاب جمال عبد الناصر قد وضعه في مأزق حقيقي.

ثم جاء “أسبوع التساقط السريع للطائرات الإسرائيلية” على ضفاف قناة السويس في حزيران/يونيو 1970، حيث سقطت 9 طائرات من طائرات النخبة الأمريكية والفرنسية المتوافرة لدى إسرائيل: الفانتوم والميراج، وتواكب مع ذلك أن أجهزة الاستماع الإسرائيلية قامت برصد مكالمات باللغة الروسية بين الطيارين السوفيات، في أول اكتشاف إسرائيلي لذلك التطور الهائل من منظور توازن القوى.

في ضوء هذين الحدثين – الرسالة إلى نيكسون، وتساقط الطائرات – جاءت “مبادرة روجرز” تنص بصراحة لأول مرة على: “انسحاب إسرائيل الكامل من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967”. ففي 5 حزيران/يونيو عام 1970، طرح وزير الخارجية الأمريكي، وليام روجرز، مُبادرة لوقف إطلاق النار لمُدة 90 يومًا بين مصر وإسرائيل، والبدء في مفاوضات لتنفيذ القرار الرقم 242، وقبلتها مصر بينما رفضتها سورية. وهو ما أدى إلى عاصفة من الهجوم السياسي والإعلامي ضد جمال عبد الناصر، واتهام مصر بالخيانة والاستسلام والانهزامية، والدعوة إلى أن يكون النضال من أجل تحرير كل فلسطين، وليس الأراضي التي احتلت عام 1967 فقط.

يشير كتاب “أسرار ناصر من وقائع ملفات “منتهى السرية” في المخابرات البريطانية والفرنسية والأمريكية والإسرائيلية“، إلى أن وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان كان قد قرر أنه لا مفر من إعلان الانسحاب الكامل من سيناء تحت ضربات حرب الاستنزاف الضروس، التي حولت حياة الجيش الإسرائيلي إلى جحيم، وتصاعد أعداد القتلى الإسرائيليين بشكل غير مسبوق ولا يحتمل، إلا أنه تراجع في آخر لحظة لتأثير ذلك في صورة “الجيش الذي لا يقهر” عسكريًا ومجتمعيًا! وطبعًا الرد الحاسم على أي ادعاء بشأن مضمون ما نُشر من التسجيلات بشأن توجهات جمال عبد الناصر الحقيقية؛ ترد عليه حرب الاستنزاف، التي كانت في ذروتها وقت تسجيل هذا الحوار بين جمال عبد الناصر والقذافي.

بات معروفًا أن جمال عبد الناصر قد قبل “مبادرة روجرز” لسبب عسكري أساسي غير معلن؛ يتمثل بدفع شبكة الصواريخ السوفييتية المتقدمة إلى الجبهة على شط قناة السويس. وكانت المحاولات كافة التي بذلتها القوات المسلحة المصرية لبناء التحصينات والبنية التحتية اللازمة لتلك الشبكة قد قوبلت بهجوم جوي إسرائيلي كاسح، كبَّد مصر خسائر هائلة. ولهذا عندما سأل جمال عبد الناصر الفريق أول فوزي ما هي المدة المطلوبة من الهدوء العسكري لدفع هذه الشبكة؟ كان الرد: شهرًا، فعقب جمال عبد الناصر قائلًا: سأعطيك ثلاثة أشهر، أي أن التسجيلات المعلنة جاءت في ذروة استكمال الاستعدادات الأخيرة للحرب.

لم تكن هناك معلومات حقيقية معلنة لأسباب جمال عبد الناصر لقبوله بالمبادرة، ولا كان ممكنا أن يكشف مقاصده، في وقت كانت القوات المسلحة تتأهب لعبور قناة السويس بقوة السلاح. لكن حملة المزايدات الصاخبة عليه قد أغفلت تمامًا دور الرجل، وتاريخه ومواقفه؟! هنا القصد مقصود، والنيات يستحيل تغييبها.

وهنا تنبغي الإشارة إلى رحلة جمال عبد الناصر السرية إلى موسكو في كانون الثاني/يناير عام 1970؛ حيث كان السبب الأساسي معالجة الفجوة بين مصر وإسرائيل في سلاح الطيران، وبخاصة مع استباحة العمق المصري. وحيث إن الطائرة من المنظور العسكري تواجهها طائرة أو صاروخ، ونظرًا إلى أن إعداد الطيارين، وبخاصة للمشاركة في معركة جارية، يستغرق سنوات، كان البحث عن البديل المنطقي: شبكة الصواريخ. وفي محادثات موسكو أكد بريجنيف أن الصواريخ المطلوبة لم تخرج مطلقًا من الاتحاد السوفياتي إلى أي بلد، ولا حتى البلدان الاشتراكية، ثم إن التدريب عليها يتطلب 6 شهور على الأقل.

للتغلب على النقطة الأولى تأجلت المحادثات يومًا، واستدعيت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي للانعقاد على نحو عاجل، ووافقت على الطلب المصري.

وللتغلب على النقطة الثانية وافق جمال عبد الناصر، أول مرة، على استقبال جنود سوفيات لتركيب الشبكة وتشغيلها، وليس مجرد خبراء أو مستشارين، كما جرى بعد النكسة مباشرة. في الحقيقة، انطلق جمال عبد الناصر من توجه أساسي يتمثل – بتعبيره – “في توريط الاتحاد السوفياتي في الصراع، حتى تقترب مواقفه من العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل”.

وحيث إن قبول “مبادرة روجرز” كان يرجع في حقيقته إلى دفع شبكة الصواريخ إلى الجبهة، في جانب منه أساسي، فمن المهم العودة إلى اليوم الفاصل لوقف إطلاق النار ليلة 7/8 وفجر 8/8، حيث اندفعت كتائب الصواريخ مع أذان المغرب، وتولى محمد حسنين هيكل، الذي كان يشغل منصبي وزير الإعلام والخارجية بالنيابة (لمرض محمود رياض)، إدارة العملية مع وزير الخارجية الأمريكي، وظل يطلب تأجيل موعد بدء وقف إطلاق النار، بذرائع مختلفة، عدة مرات، بعد الساعة 12.00 التي كانت مقررة في الأصل. وعند الساعة الخامسة فجرًا اتصل بجمال عبد الناصر وأبلغه أن المهمة تمت بنجاح كامل، فكان رد جمال عبد الناصر موجزًا وبليغًا: “إذن فقد انتصرنا في معركة التحرير”، كل ذلك منشور علنًا في حوار هيكل مع الجزيرة. وظلت إسرائيل تردد أن مصر خرقت الاتفاق قبل أن يبدأ، على أساس أن المبادرة كانت تنص على ثبات الأوضاع والمواقع العسكرية على ما هي عليه، وملأت العالم صخبًا وضجيجًا… لكن حقائق القوة وموازينها كانت قد تغيرت جذريًا.

هناك جانب ثان في غاية الأهمية لقبول مبادرة روجرز. إلى جانب بناء شبكة الصواريخ، يتمثل بأنها تضمنت، أول مرة، الإشارة إلى مبدأ الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، بعد رفض دائم أمريكي وإسرائيلي لأي ذكر لكلمة الانسحاب في كل المبادرات والمشروعات التي رفضتها مصر قبل ذلك. واستشهد جمال عبد الناصر في التسجيلات بخطاب لبيغين الوزير في الحكومة الإسرائيلية آنذاك بشأن أهمية الاحتفاظ بالضفة الغربية والقدس في الكنيست، حيث تكرر قوله إن أي ذكر لكلمة الانسحاب يعدّ خيانة، ويعني سقوط الحكومة، والعودة إلى الحرب.

أشار جمال عبد الناصر في التسجيلات إلى أن جهات غربية رددت أن المبادرة تخص سيناء وحدها، وأنها لن تمتد إلى الجولان، فأعلن جمال عبد الناصر أن الجولان قبل سيناء، وأكدت الولايات المتحدة صحة كلامه رسميًا. وعلى مدار التسجيلات أكد جمال عبد الناصر أن استعادة الأراضي العربية المحتلة عام 1967، الجولان والضفة الغربية والقدس وغزة، تأتي كلها قبل استعادة سيناء.

لم يكن قبول المبادرة الأمريكية تنازلًا، أو استسلامًا، على ما ذهبت اتهامات ومزايدات، شاركت فيها بدرجات مختلفة بلدان عربية عديدة، العراق في مقدمها وسورية والجزائر واليمن الجنوبي والمنظمات الفلسطينية، بل صدر عن مركز قوة مؤكد، عبَّدته إرادة قتال صلبة، وتضحيات جسام.

فقد استهدف حائط الصواريخ حماية الجبهة الداخلية من الغارات الإسرائيلية، وتمكين القوات المسلحة من أداء واجبها في إزالة أثار العدوان بتحرير سيناء المحتلة. لم يكن ممكنًا عبور القناة قبل بناء حائط الصواريخ. هذه حقيقة تاريخية وعسكرية، لا مجال لدحضها أو التقليل من شأنها. فلماذا استُبعد بالحذف هذا المقطع بالذات؟ إنه ينير النص كله، ويفسر دواعيه لقبول “مبادرة روجرز”، والغضب البالغ من حملات التحريض عليه، من دون استعداد حقيقي لدفع أية فواتير تقتضيها الحرب الشاملة.

كذلك فقد أشار جمال عبد الناصر في التسجيلات إلى ثلاثة أهداف إضافية لقبول “مبادرة روجرز”:

أولها، النتائج الاستراتيجية المتوقعة لعملية العبور، التي لخصها بقوله: “إحنا إذا عدّينا القناة بنهز إسرائيل، ونهز الشرق الأوسط، ونهز الدنيا كله “. ومن اللافت أن هذا ما تحقق رغم كل الاختلافات الجوهرية بين منهج السادات وإدارته للمعركة، وما كان يمكن أن يترتب على العبور تحت قيادة جمال عبد الناصر ومنهجه، ما جرى تلخيصه بالقول: “إن السياسة خذلت السلاح في حرب 1973”! ولم يتضمن المقطع المجتزأ هذا الرد على مخاوف القذافي أن تتعرض مصر لهزيمة جديدة، إذا ما دخلت الحرب وحدها.

وثانيها، حماية الجبهة الداخلية بوجه عام، فضلًا عن أن هناك بالضرورة خسائر جسيمة تتحملها مصر جرّاء حرب الاستنزاف، بشرية ومعنوية قبل العسكرية والاقتصادية، قائلًا: “أنا ليه قبلت الثلاثة أشهر، لأن فيه استنزاف مضاد، يعني لما يموت عند اليهود 10 بيموت عندي 100”. وقد اقتصر على ذكر الخسائر البشرية لأنها لا تقدر بمال. وترجع جسامة تلك الخسائر إلى أن إسرائيل تلتزم “استراتيجية الردع الجسيم”.

وثالثها، إستراتيجية إدارة الصراع الدولي في ظروف عالم اليوم؛ وقد عبر عن ذلك قائلًا: “حتى لو هحارب بكرة هفضل أقول حل سلمي، وإلا سوف أكون أمام العالم بخدم إسرائيل وبدّيها كل اللي بتطلبه”. ويضيف إننا “ما نقدر نرفض لو فيه بديل حتى لغاية يوم استخدام القوة”. ثم يلخص جوهر الموقف القائم في صيغة بليغة موجزة: “خليكم بالكلام ونحن نحارب”! لا يمكن أن يكون عملًا بريئًا ذلك الاجتزاء لنصوص شارحة لأهدافه ومقاصده.

ولا بد من الإشارة إلى أن بوادر اليأس المصري من العرب قد تبلورت في مؤتمر الرباط عام 1969، حيث كانت هناك مطالب لمصر، بخاصة أجهزة رؤية ليلية لأنه كان من المخطط أن تستمر الحرب ليلًا (كان الموعد الأصلي لبدء العمليات العسكرية الساعة السادسة مساءً حتى ما قبل المعركة بثلاثة أيام فقط، وهذا هو الموعد الذي نقله أشرف مروان لمدير الموساد في لندن فجر يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، بينما قامت الحرب فعلًا الساعة الثانية بعد الظهر حسب التعديل الأخير)، وكذلك لشراء موتورات كاتمة للصوت لقوارب العبور. وفوجئ جمال عبد الناصر بحديث مساومات مالية وتفصيلات لا تليق بجلال المعركة القادمة، ولا بالتضحيات المصرية اللازمة لخوضها بمعيار الدم والجهد والعرق، فأوقف حديثه وخاطب غاضبًا وحادًّا الفريق أول فوزي الذي كان يعرض هذا الجانب المالي قائلًا: فوزي لمّ ورقك .. واتبعني! وترك المؤتمر غاضبًا.

لم يشر المقطع الصوتي المجتزأ إلى دور الصحافة اللبنانية الموالية للسعودية في الحملة على جمال عبد الناصر، والمزايدة عليه، ولا إلى انتقاداته الحادة لدول عربية متعددة، وبخاصة العراق والجزائر، في الوفاء بالتزاماتها دعمًا للمجهود الحربي المصري. كان ذلك من أعمال الاجتزاء لأهداف سياسية، لا بحثًا عن الحقيقية التاريخية من زواياها المختلفة. وهناك في التسجيلات نجد كلامًا عن السعودية، وقطعها الدعم المالي المقرر بمؤتمر الخرطوم عام 1967 عن مصر بلا سبب.

رابعًا: التصديق على “أمر القتال”

في شهر آب/أغسطس 1970، الذي جرت فيه التسجيلات، أشار الفريق أول محمد فوزي في كتابه حرب الثلاث سنوات: 1967 – 1970 إلى أنه في الشهر نفسه أبلغ جمال عبد الناصر أن القوات المسلحة المصرية استكملت كل الاستعدادات والقدرات اللازمة لخوض حرب التحرير، وأنها حققت المعدلات العالمية المقررة لأية معركة هجومية، والتي تتلخص في أن تتفوق القوة المهاجمة عن القوة المدافعة بنسبة ثلاثة إلى واحد، نظرًا إلى أنها تتعرض لخسائر جسيمة أثناء الهجوم وقد خرجت بعيدًا من السواتر والتحصينات، بينما القوة المدافعة في كامل تحصيناتها. وأضاف أن القوات المسلحة المصرية حققت هذه النسبة في كل الأسلحة والمجالات، فيما عدا الطيران، لكنها استعاضت عن ذلك بشبكة الصواريخ. وطلب منه تحديد موعد للتصديق على وثائق “أمر القتال” بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة؛ مؤكدًا بذلك أن تحديد عام 1970 لبدء حرب التحرير، في اجتماعه مع جمال عبد الناصر في 11 حزيران/يونيو عام 1967، كان سليمًا وموضوعيًا.

وحيث إن جمال عبد الناصر كان قد عاد لتوِّه من رحلته العلاجية الطويلة في الاتحاد السوفياتي، وشدد الأطباء هناك على ضرورة الالتزام التام بالتعليمات، وفي مقدمها إجازة طويلة خارج القاهرة، وحتى خارج الإسكندرية، وتقرر أن تكون في مرسى مطروح؛ فقد طلب جمال عبد الناصر من فوزي أن يجهز وثائق التصديق اللازمة، على أن يصحبه إلى مرسى مطروح للتوقيع عليها. وهذا ما تم بالفعل، وتقرر أن تبدأ حرب التحرير في اليوم التالي لانتهاء وقف إطلاق النار، أي يوم 8 تشرين الثاني/نوفمبر، الذي تواكب مع ذكرى “يوم الأربعين” لوفاة جمال عبد الناصر. وقد أكد فوزي أنه حين أعلن جمال عبد الناصر في خطاب له: “إننا سوف نخوض القتال فوق بحر من الدماء، وتحت أفق مشتعل باللهب”، فإنه عدَّ ذلك ضؤًا أخضر للمباشرة بالتنفيذ.

هذه هي المعلومات والحقائق… والأصول… لا الرغبات والمزايدات… وبعد مئات السنين، وحينما يكتب التاريخ بأمانة ونزاهة وشرف، وبغير أحقاد وعقد، فإن التاريخ سوف ينصف جمال عبد الناصر، حتى في هزيمة عام 1967 الفادحة… وأبسط ما سوف يقال عنه: إنه كان رجلًا… تحمل المسؤولية بشجاعة، وتقبَّل الحساب كاملًا عنها في كبرياء… قام ببناء “جيش العبور”، ومثَّل إرادة أمة بأسرها في يوم من أحلك أيامها… وكان وسط الظلام والعواصف والمؤامرات الدولية إنسانًا مؤمنًا بوطنه وأمته وبمثلها العليا، وأعطى حياته لخدمة هذه المثل العليا بتجرُّد ونبلٍ وصدق. فقد أصاب مرات، وأخطأ مرات، وكان لا بد أن يصيب ويخطئ .. لكنه حارب طوال الوقت، بإيمان ويقين، ولم يستسلم حتى النفَس الأخير… وهكذا يفعل الرجال!

شارك الخبر
AdvertisementAdvertisement

إقرأ أيضاً

جامعات أوروبية تقطع علاقاتها بنظيراتها الإسرائيلية.

في الرابع من شهر حزيران الجاري ،أعلنت اشهر جامعة أيرلندية “Trinity College Dublin “قطع كافة العلاقات...

بما خص مافيا بيع الادوية...

ان تضع القوى الأمنية والقضائية اليد على عصابة تهريب ادوية لمعالجة السرطان أمر عادي، اما إن يكون...

العيد السامي

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. قال الله تعالى في القرآن الكريم: {قل بفضل الله وبرحمته...

ترامب و«إسرائيل» افتراق بعد وفاق

قامت « إسرائيل »على ثلاثة ركائز  : ترحيل يهود أوروبا بعد قرون من تعالي اليهود وانعزاليتهم وكره...

ليس تهجيرًا... إنها إبادة

منذ أشهر طويلة، تتعامل بعض المنصات الإعلامية والمنظمات الدولية مع ما يجري في قطاع غزة ،على أنه...

"التيار الصدري وإيران" العلاقة الباردة _ 1

نتحدث عن الحكاية العلاقة الباردة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية و التيار الصدري _   المدرسة...