الخميس، 15 مايو 2025
بيروت
17°C
سماء صافية
AdvertisementAdvertisement

إن جآءكم فاسقٌ بنبإٍ فتبيَّنوا

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{يآ أيها الذين ءامنوا إن جآءكم فاسقٌ بنبإٍ فتبيَّنوا أن تُصيبوا قومًا بجهالةٍ فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين} سورة الحُجرات.

وروى القرطبي في جامعه وغيره في سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل رجلًا إلى بني المصطلق (قومٌ من العرب) بعدما آمنوا بالله ورسوله ليأخذ منهم مال زكاتهم، فلما أبصروه أقبلوا نحوه يريدون إكرامه فهابهم لشىءٍ كان بينهم في الجاهلية، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أن القوم قد همُّوا بقتله ومنعوا صدقاتهم، فقدم وراءه وفد بني المصطلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدي إليه ما قِبَلَنَا من الصدقة، فاستمر راجعًا وبلغنا أنه يزعم أنا خرجنا لنقاتله، والله ما خرجنا لذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية. وفي “الدر المنثور” للسيوطي “أن بني المصطلق حين أبصروا الرجل أقبلوا نحوه فهابهم (خاف منهم) فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره بأن تثبَّت ولا تعجل فانطلق حتى أتاهم ليلًا فبعث عيونه (جمع عينٌ والمراد الذي يستطلع خبر العدو) فلما جاءهُم أخبروه أنهم متمسكون بالإسلام وسمع أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالدٌ فرأى ما يُعجبه فرجع إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله في ذلك القرآن فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: التأني من الله والعجلة من الشيطان”

وقوله تعالى: فتبيَّنوا من التبيين وهو ترك العجلة والتدبر والتأني في الأمور، وقوله: أن تصيبوا أي لئلا تُصيبوا، وقوله: قومًا بجهالة أي بخطإٍ، وقوله: فتصبحوا على ما فعلتم نادمين أي تندمون على العجلة وترك التأني. وقد روى مسلمٌ عن أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الرفق لا يكون في شىءٍ إلا زانه ولا يُنزع من شىء إلا شانه” والرفق لِين الجانب ولطافة الفعل ولطَفَ الله به أي وفَّقه وحفظه.

لا ينبغي للمرء أن يتسرَّع في الحكم على الناس قبل التثبت من الحقائق ولو اقتضى الأمر مراجعة القضية مرةً بعد مرةٍ فربما تسرَّع الشخص في الحكم على الناس فرفَع وضيعًا أو وضع رفيعًا أو اتهم بريئًا أو برَّأ ظالمًا ثم ندم بعد ذلك، ولربما تسرَّع الشخص فكانت نتيجة ذلك أن خربت بيوتٌ أو بلادٌ أو هتكت أعراضٌ وكم من أناسٍ اليوم يشهدون بما لا يعلمون لرشوةٍ أو قرابةٍ وكم من أناسٍ يتسرَّعون فيعتدون على الناس يظنون بهم السوء لغير قرينةٍ معتبرةٍ وكم من أناسٍ يؤخذون بالكذب والافتراء وقد قيل:

وجلُّ الناس خدَّاعٌ وجانٍ وابن خدَّاع

يعيثون مع الذئب ويبكون مع الراعي

ولو أردنا تتبع الأمثلة الشاهدة على صحة ما نقول قديمًا وحديثًا لطال الكلام وكلت الأقلام والعاقل إزاء ذلك من حمل نفسه على الحق وقهرها قبل أن تُهلكه بالتسرُّع بالوقوع في الناس.

ولذلك ينبغي التيقظ والاحتياط والحذر وعدم الاستعجال في إطلاق الأحكام على فلانٍ وفلانٍ ولو استغرق الوصول إلى كبد الحقيقة أيامًا طويلةً فإن معرفة عين الحقائق تحتاج إلى بحثٍ وتدبر، ومن أراد أن يقف على الأحداث ومجريات الأمور كما هي لزم التأني واكتسى حُلة الصبر وراض نفسه لتنقاد له بترك العجلة وأنصف من نفسه قبل التفتيش عن عيوب غيره، فربما كان هو مضيعًا للحقوق ولا يدري، وذلك أن بعض الناس يضيعون حق الله تعالى فلا يلتزمون ما أوجبه الله عزَّ وجلَّ عليهم من التكاليف الشرعية بأداء الواجبات واجتناب المحرمات، ومن كان لمثل هذا مضيعًا كان لما سواه من الحقوق أضيع ومن قاده الهوى هوى ومن جعل الرفق قائده سلم.

تبيَّنوا وتثبَّتوا

وقديمًا رُوي أن شُريحا القاضي (أحد أئمة السلف): أتاه مرة شاكٍ يشكو له ويبكي بكاء مُرًا، وشريحٌ في مجلسه يسمع شكواه بهدوء، فقال أحد الحاضرين: أصلح الله القاضي ألا تنظُر إلى كثرة بُكائه؟ فقال شريح رحمه الله: إن إخوة يوسف عليه السلام جاءوا أباهم عشاءً يبكون وهم ظلمة.
فلا ينبغي الأخذ إذًا بمجرد ظاهر الأمر بل بالقطع واليقين، وليس لنا أن نحكم بأن الظاهر يفيد كذا بلا شك مع إمكان أن يكون الحق على خلاف الظاهر وليس البكاء دليلًا على المظلومية ولا كثرة الكلام دليلًا على البراءة وربما ظهر بعد التمحيص جانبٌ مستورٌ في قضيةٍ ما أفاد حقيقةً لم تكن بالحسبان وربنا تعالى يقول:{وإن الظن لا يُغني من الحق شيئًا} سورة النجم. قال الخازن في “تفسيره” “لا يقوم الظن مقام العلم الذي هو الحق، وقيل: معناه إنما يُدرك الحق الذي هو حقيقة الشىء بالعلم واليقين لا بالظن والتوهم”

ومثل هذا الكلام أيضًا يتوجه إلى مريد الشهادة على الحوادث والوقائع، حيث كثيرًا ما ينبني حكمٌ ما على شهادةٍ ما من إنسان اجتمعت فيه مواصفاتٌ مخصوصة، وقد جاء في “الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي عن ابن عباس قال:”سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: تَرَى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع”.

قال القرطبي بعد ذكره الحديث: “وهذا يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به”

أي فليس له بالتالي: أن يشهد اعتمادًا على غلبة الظن لأن الظن لا يُفيد القطع.

وإذا ما كان الأمر هكذا وكانت الحكمة والمصلحة تقتضي العمل بما بيناه وقلناه فلماذا التهور؟ ولماذا يتسرَّع كثيرٌ من الناس في اتهام الآخرين بما يستنتجونه من بعض الأحداث ويُلقي سمعه لبعض الفاسقين الكاذبين فيحكم من خلال ما يسمعه منهم على أناسٍ صالحين؟ فقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ ليلة الإسراء والمعراج بثورٍ عظيمٍ يخرج من ثقبٍ صغيرٍ ثم يريد أن يرجع فلا يستطيع فقال جبريل عليه السلام: هذا الرجل (أي مثلُ الرجل) يتكلم بالكلمة فيندم فيريد أن يردها فلا يستطيع” والحمد لله أولًا وآخرًا.

شارك الخبر
AdvertisementAdvertisement

إقرأ أيضاً

العميل محمد هادي صالح والخيانات الاخرى المستترة...

في زمن بات فيه كثيرون يجهرون مواقفهم المؤيدة للسلام والتطويع مع العدو الأصلي “كحالة طبيعية”...

عن الذكاء الاصطناعي

يحدث استهداف في قرية ما، مباشرة تبدأ اتصالات الاهل والاصحاب بمن يفترض انهم من الشباب، سواء بهم او...

ماذا يجري في العراق ؟

في وقت تؤكد فيه مصادر رسمية عراقية ، ان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ، سيرأس وفد بلاده...

خوسيه موخيكا كنتَ فتألقتَ.

هنا لم يتحدث عنك احد الا قلّة من الناس ،التي ما زالت تؤمن ان المبادىء والشهامة أقوى من الرأسمال...

الأمريكي الحاكم في واشنطن والأمريكي الحاكم في الفاتيكان والاصطدام متوقع

في مقالي يوم أمس بعنوان ” بابا أمريكي صدفة أم خطة؟” قلت بكل وضوح:” من حقنا كمحللين سياسيين...

الذكاء الاصطناعي.. للعقل وللدَّجل أيضاً

الذكاء الاصطناعي.. للعقل وللدَّجل أيضاً ليس هناك مجالٌ لا يتنازع داخله الضّدان، ومثلما الأذكياء...