
شائك الموضوع ومعقّد وملتهب حساسية، ومحرج لمن يبحر في بحره ومع ذلك، لا تراجع عن الإبحار والغوص إلى الأعماق ونفض غبار الزمن عمّا قاله الأولون في الموضوع.
قال السيد المسيح لأحد الأخوين اللذين جاءاه مختلفين على قسمة ميراث: “يا إنسان مَن أقامني عليكما قاضياً أو مقسّماً”. يعني ان السيد المسيح إبن الله المتّحد به، حسب إيمان المسيحيين، رفض أن يتدخّل في مسألة دنيوية بين أخوين. لماذا يا ترى؟ لأنه هو القائل: “اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”.
ويقودنا ما سبق إلى سؤال اشمل لنعرف البعد الحقيقي لكلام المسيح وخلفيته. ولمعرفة ذلك لا بد من الإستماع إليه يقول بحسم: “مملكتي ليست من هذا العالم” ولذا لا تعنيه شؤون هذا العالم الدنيوية التي هي من إختصاص قيصر، بل الذي يُعنى به هو “العالم الروحي” الأبدي البقاء ولذا، وهو الله بذاته، قبل الصلب، بحكمٍ من قيصر فداء للذين سيملكون ملكوت السماوات.
يتأكد من كل ما ذُكر أن الدين المسيحي، كعقيدة، لا يتعارض مع العَلمانية ولا يعتبر ملتزمها خارجاً على الدين. ويتأكد أيضاً ان رجال الدين المسيحيين الذين يدينون العلمانية و”يكفّرون” معتنقها ويحاربون نظامها، انما هم يعارضون تعاليم المسيح ويتنكرون لأقواله الحاسمة التي وردت في الاناجيل.
لقد حكمت الكنيسة اوروبا في السابق بقوانين وممارسات زعمت إنها معطاة لها بموجب “الحق الإلهي”. وكانت فترة هذا الحكم من أقسى فترات الزمن الأوروبي، وأفدحها ظلماً، وأحلكها ظلاماً روحياً وفكرياً، قبل أن تشرق شمس المسيحية الحقيقية من حبر أقلام رواد الحضارة الأوروبيين، وتبدد العتمة، وتجبر الكنيسة على “إلتزام حدودها” الطقسية، والإنصراف إلى الاهتمام بالروحانيات والعالم الآخر غير الأرضي. وكانت النهضة العلمية الشاملة التي تعيشها البشرية راهناً على كل المستويات العلمية والتقنية والفنية وصولاً إلى كشف الكثير من أسرار الكون…
يقول مارون أبو شقرا، الشاعر الكفيّ ثقافة وأدباً وتاريخاً: “التعاليم الدينية بالنسبة إلى المؤمنين بها، هي تعاليم إلهية، وأي خروج عنها حكمُه نار جهنم لأنه خروج عن الدين وعن طاعة الإله”. ولكن ما بال القارئ إذا كان الخروج عن نصٍ يعتبره المؤمنون به نصاً إلهياً كما هو الحال عند المسلمين؟؟
إذا كان المسيح حسم أمره: “مملكتي ليست من هذا العالم” فقد جاء القرآن بعده ليقرر: “الإسلام دين ودنيا” وسنَّ شرائع وقوانين ممنوع مخالفتها أو مناقشتها لأنها آتية من الله مباشرةً. “ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون” لقد حُسم الأمر عند المسلم: من لا يلتزم بما أمر الله به، في القرآن، هو، بالتالي مهدور الدم. هذا هو إيمان المسلم وعلى اللبناني غير المسلم إحترام هذا الإيمان، ما دام لبنان وطناً مركّباً متنوع الأديان، ومتعدد الطوائف. وعلى المسلم اللبناني، بالمقابل، أن يحترم إيمان المسيحي اللبناني حتى وان كان لا يتفق مع ما يؤمن هو به. هذه قاعدة العيش المشترك وفلسفتها.
طيب، هل للعلمانية مكان في هذا الوطن المركّب والمعقّد دينياً وطائفياً ومذهبياً، والذي يتوسل حكامه المدنيون وقادته السياسيون ومسؤولوه من كل الأنواع والمواقع، رضا المرجعيات الدينية؟؟ أعتقد بأسف وخجل بان حلم بعض اللبنانيين بالعلمانية كنظام حكم هو “كحلم إبليس بالجنّة”. العلمانية مساواة كاملة شاملة بين الرجل والمرأة، فكيف يقبل بها المسلم المؤمن بان ميراثها هو نصف ميراث الرجل؟ وان لكل امرأتين شهادة مقابل شهادة الرجل الواحد؟؟ “وان الرجال قوّامون على النساء” هل فهمتم أخيراً لماذا يُطرح إلغاء الطائفية السياسية كلما طرحت العَلمانية ويُرفض طرح إلغاء الطائفية بالمطلق؟ “روقوا يا شباب وخيّطوا بغير مسلة العلمانية” إلى أن “يقضي الله أمراً كان مفعولاً”.