
بعد أيام – أيام فقط – من رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، ودون أن يحضر اجتماعات سرية، ولا جلسات خاصة، وبغير الاستماع إلى تسجيلات أو تسريبات لا وقتها ولا بأثر رجعي، ومن دون أن يلتقي بجمال عبد الناصر أو يشتكي له خذلان الحكام العرب وعدم وعي بعض القوى السياسية العربية في عدد من البلدان، كتب نزار قباني، شاعر العرب الكبير، أولى قصائده في رثاء الزعيم الراحل. وببلاغة الشعراء، وبالمجاز الشعري الذي وظفه واستخدمه دائمًا، قباني في السياسة وغيرها، كانت قصيدته “قتلناك يا آخر الأنبياء”، وفيها يقول:
“
قتلناكَ.. يا آخرَ الأنبياءْ
قتلناكَ..
ليسَ جديداً علينا
اغتيالُ الصحابةِ والأولياءْ
فكم من رسولٍ قتلنا..
وكم من إمامٍ..
ذبحناهُ وهوَ يصلّي صلاةَ العشاءْ
فتاريخُنا كلّهُ محنةٌ
وأيامُنا كلُّها كربلاءْ…
“
ثم يضيف في أبيات أخرى:
“
نزلتَ علينا كتاباً جميلاً
ولكننا لا نجيدُ القراءةْ..
وسافرتَ فينا لأرضِ البراءةْ
ولكننا.. ما قبلنا الرحيلَ..
تركناكَ في شمسِ سيناءَ وحدكْ..
تكلّمُ ربكَ في الطورِ وحدكْ
وتعرّى..
وتشقى..
وتعطشُ وحدكْ..
ونحنُ هنا نجلسُ القرفصاءْ
نبيعُ الشعاراتِ للأغبياءْ
ونحشو الجماهيرَ تبناً وقشاً
ونتركهم يعلكونَ الهواءْ…
“
ويقول في فقرة ثالثة، وفيها يقترب أكثر من الحالة التي جاءت في تسريبات عبد الناصر الأخيرة فانظر ماذا يقول حرفياً:
“
قتلناكَ..
يا جبلَ الكبرياءْ
وآخرَ قنديلِ زيتٍ..
يضيءُ لنا في ليالي الشتاءْ
وآخرَ سيفٍ من القادسيةْ
قتلناكَ نحنُ بكلتا يدينا
وقُلنا المنيةْ
لماذا قبلتَ المجيءَ إلينا؟
فمثلُكَ كانَ كثيراً علينا..
سقيناكَ سُمَّ العروبةِ حتى شبعتْ..
رميناكَ في نارِ عمّانَ حتى احترقتْ
أريناكَ غدرَ العروبةِ حتى كفرتْ
لماذا ظهرتَ بأرضِ النفاقْ..
لماذا ظهرتْ؟
فنحنُ شعوبٌ من الجاهليةْ
ونحنُ التقلّبُ..
نحنُ التذبذبُ..
والباطنيةْ..
نُبايعُ أربابنا في الصباح..
ونأكلُهم حينَ تأتي العشيةْ!
“
هل حكى له أحد عن فضفضة عبد الناصر مع القذافي؟! هل قصّ عليه أحد ما يجري في كواليس الساسة والقادة؟! هل سرّب له أحد؟ أم سرّبها له ضميره وعبقريته في قراءة كل شيء حوله؟! هو هكذا.. أدرك بوعيه القومي والسياسي ما يجري حوله، وصاغه بشعره وكأنه اطلع على خفايا الماضي، وكأنه يرى الحاضر، وكأنه يقرأ المستقبل…
واليوم – قال إيه – يُندهش البعض من معاناة الزعيم الكبير مع الحكام العرب، وكان يسبقهم جميعًا وعيًا وثقافة، وأكثرهم شرفًا وطهارةً وإخلاصًا للجماهير وقضاياها…
للناس اللي اتخضّت يا عيني… لم تقرأ القصيدة من قبل؟! وهي ملء الدنيا كلها ومنذ اكثر من نصف قرن؟! لم تسأل نفسك عن كلام قباني؟! أم قرأت، ولم تفهم، وسألت، ولم تعرف؟!
نخبتنا مأساتنا التي تمشي على الأرض!
لا تصدق؟! طب انظر إلى إبراهيم عيسى كدة !!